بحـث
المواضيع الأخيرة
نوفمبر 2024
الإثنين | الثلاثاء | الأربعاء | الخميس | الجمعة | السبت | الأحد |
---|---|---|---|---|---|---|
1 | 2 | 3 | ||||
4 | 5 | 6 | 7 | 8 | 9 | 10 |
11 | 12 | 13 | 14 | 15 | 16 | 17 |
18 | 19 | 20 | 21 | 22 | 23 | 24 |
25 | 26 | 27 | 28 | 29 | 30 |
قول في خراب الذات والمعنى / خالد سليكي
صفحة 1 من اصل 1
قول في خراب الذات والمعنى / خالد سليكي
قول في خراب الذات والمعنى
خالد سليكي
الجمعة 14 شتنبر 2012 - 13:25
هوامش إضافية حول الرسوم
يقول ديريدا: »إن الهوية لا تعُطى أبدا، ولا تؤخذ، أو تُبلغ؛ العملية اللامتناهية والوهمية بشكل غير محدود هي فقط التي تظل (ويبقى). ومهما كانت قصة عودة المرء إلى ذاته أو سكنه، إلى سقف بيته، ومهما كانت الأوديسة (والترحال الطويل) أو رواية تكوين الشخصية، أو بأي شكل ابتكر المرء قصة بناء الذات، الذوات أو النفس، فإنه يتخيل دوما أن الذي يكتب عليه أن يعرف كيف يقول "أنا"« ثم يقول »يمكنني أن أقتل الآخر، دون أن أضع حدا لحياته، ويمكنني أن أكون عدوانيا بشكل لايمكن رصده«.
من أهم السمات المميزة للعربي/المسلم، اليوم، هي شدة انفعاله لأتفه القضايا وشدة مقاومته للآخر إذا ما تجرأ على تناول إحدى "مقدساته" .. فيتحد الجميع من أجل التظاهر والانتفاض ورفع الشعارات، التي قد تصل في بعض الأحيان إلى التخريب والفوضى..لكن حين يتعلق الأمر بقضايا تمس حياته الاجتماعية والسياسية والاقتصادية، فإنه سرعان ما يتراجع إلى الوراء غير آبه بما يقع ويحدث من حوله..وهو في ذلك "يوكل" أمره "لله"..هكذا يصبح العربي/المسلم مهتما بكل القضايا الكبرى، فيناقش، رجل الشارع، والفقيه، والصانع، والأمي والذي لم ينل أي نصيب من التعليم، مسألة الحجاب، وقضايا الفقه والقرآن والسنة، والتاريخ والصراعات الدولية، والعولمة، والإمبريالية، وحين يسمع بمنع كتاب بسبب تناوله لمسألة تمس المقدس، فإنه يخرج إلى الشارع ويحاول أن ينال نصيبه من الأجر الموزع، عسى أن تتاح له فرصة النيل من صاحبه ولو بتمزيق صورته..فصار اسم نصر حامد أبو زيد، وطه حسين، وسلمان رشدي وغيرهم، من الأسماء التي يناقشون أبحاثهم بما يقرأونه من نتف مجتزأة من سياقاتها، ومزورة ومحرفة في "صحافة الظلام".. لأنه يصعب عليهم فهم جملة واحدة من أعمال هؤلاء الذين هم براء من كل ما يلصق بهم.
أصبحت حرية الفكر والتفكير في الزمن العربي/الإسلامي مليئة بالمخاطر ومحفوفة بالمصاعب والذعر والخوف.. إنها باختصار محاكم تفتيش من نوع جديد تمارس رقابة على قلوب ونوايا الناس، خاصة من يحمل فكرا متنورا وعقلانيا..
إن المشهد يتكرر كل يوم، وصارت المجتمعات العربية/ الإسلامية فضاء للنقد والتجريم والتكفير..فطوال قرون من الزمن و"فقهاء الظلام" يتربصون ويجتهدون في تصريف وتداول أدوات القمع، فشكلوا عائقا قويا بسيوفهم التي تجهز على " رقاب العُزل" الذين لايحملون غير الأقلام..هم يقفون شاهرين أعتى وسائل التنكيل.. فصيَّروا الحياة العامة والحريات عبارة عن جهنم، مما فع بالعديد من المثقفين إلى المنفى الاختياري، أو إلى العيش في حالة اللاستقرار والتخفي.. لذا فإن السياق العام الذي يتفجر فيه الشارع العربي/الإسلامي معبرا عن مقاومته والدفاع عن مقدساته، هو سياق متورم، ومتخن بالانحطاط الفكري الذي تهيمن عليه العقلية الفقهية السلفية في صورها الأكثر ظلامية وانسدادا..
نسوق هذا الحديث لأنه يكفي، اليوم، أن تلصق بقضية ما، كيفما كانت طبيعتها، تهمة المس بالمقدس الديني لكي تشتعل الشوارع العربية/الإسلامية وتندد وتقاطع المنتوجات وتحرق رموز العقلانية.. لذلك ليس غريبا، أن تحاكم »وليمة لأعشاب البحر« بعد مرور سنوات على صدورها! في الوقت الذي تكون الخلفيات المحركة لهذه الردود لا علاقة لها بالدفاع عن الدين بقدر ما هي محكومة بخلفيات سياسوية دنيوية ونفعية خالصة.. وهي أمور ليست غريبة على تاريخ الحضارة الإسلامية، التي لم يشهر فيها سيف إلا من خلفية سياسية.. لأن الدين كان دائما في خدمة السياسة والحكم ولم تكن السياسة في خدمة الدين!
كل هذا يكشف لنا أن »الرسوم المسيئة« التي أثارت زوبعة في كل أنحاء العالم الإسلامي، كان من ورائها سوء فهم ناتج عن الجهل بأدنى مقاييس الخطاب الذي يوظف الصورة كأداة، هذا إلى جانب الجهل بالمكونات الثقافية للمجتمعات غير الإسلامية؛ بحيث يسقطون تصوراتهم ورؤاهم على الآخر، في تغييب واضح لمفاهيم الاختلاف الثقافي والتنوع الذي يمثل شرطا أساسيا داخل المجتمع الإنساني..ومن هنا كانت ضرورة الوقوف على هذه الرسوم، وتحليلها ومعرفة مضامين كل رسم، ثم نظرة المتلقي الدانماركي الذي هو المخاطب الأول والقارئ لهذه الصحف.
❊ تاريخ مرتبك
يرى أحمد أمين أن الإسلام لم يتوان في محاربة الأصنام والتماثيل، بل وعمل على التشديد على هذا التحريم مكرها التصوير والمصورين، لذلك لم ينمُ التصوير والتمثيل في الإسلام نموا كافيا، غير أن الطبيعة البشرية تميل إلى الرقة والفن، ولما كان الإسلام ينهى عن التصوير فإن المسلمين وجدوا منافذ أخرى منها التجويد في الخط والغناء بالقرآن كبديل عن تحريم الغنا وغيرها..وكان لدخول الأمم غير العربية في الإسلام أثر واضح على الحياة الفنية، وهكذا ظهرت في القرن الرابع الصورة المجسمة للحيوانات وإن كانت بعيدة شيئا ما عن الطبيعة، ومع ذلك فقد مهر قوم في تصوير الأشخاص والحيوان كما فعل بعض الفرس، ويضيف أحمد أمين أنه سمع محاضرة ألقاها بعض المستشرقين عن مصحف فارسي مصور صورت فيه مثلا صورة يوسف وزليخا (ضحى الإسلام؛ ج2. ص.236-238).
وإذا كان الواسطي يعتبر أهم وأول مصور في تاريخ الإسلام، فإن ذلك لم يمنع من وجود مصورين سبقوه.. وهذا يعني أن تحريم الصورة لم يحسم فيه دينيا، فبعد الجدال حول الصورة صدر نص صريح في حدود عام 720 ميلادية من قبل سلطة سياسية على يد الخليفة الأموي يزيد بن عبد الملك، وهكذا سيحسم في الأمر بقرار سياسي. ومع الواسطي (القرن 12 الميلادي) ستعرف الصورة حضورا متميزا، إذ تمكن بالخروج بها إلى الحياة على الرغم من الحساسية التي كانت لدى المجتمع تجاه الفن بشكل عام، حيث استطاع أن يرسم لوحات تتناول المرأة كموضوع، فصور الولادة في وقت كان يحرم على المرأة أن تظهر في الحياة العامة أو أن يراها الرجل في حالة من السفور، وقد تجاوز ذلك إلى رسم الأعضاء التناسلية للمرأة مصورا جسدها دون أن تكون دلالاته ذات إيحاءات جنسية وإن كانت أثارت بعض ردود الفعل.. وهو في ذلك عمل على تصوير الحياة اليومية من دون مجاملة أو تنميق، إذ تعكس لوحاته مجالس الخمر والطرب، ومجالس القضاة وقوافل الحج، إلى جانب ذلك صور الأشكال الآدمية دون أن يلزم نفسه بالمحرمات الدينية..وقد أجمع النقاد على أنه لم يصور الواقع كما يتمناه وإنما صوره كما هو. وإجمالا فالواسطي بعمله هذا استطاع أن يخرق المحرمات الدينية فتناول الجسد النسائي العاري، كما أدخل الفراغ في اللوحة (وهو -الفراغ- من الأمور التي لم تكن بحيث يعتبر الفراغ من الشيطان).
الملاحظ أن ما يعرف، اليوم بالمنمنمات هي تجسيد لوقائع لها امتداداتها الواقعية، وهي تجسيد لحياة المجتمع الإسلامي كما هو واضح من الرسوم التي وصلتنا. ولم تكن تشكل أي عائق في مسار الحضارة الإسلامية، بقدر ما تعايشت مع باقي المكونات الثقافية الأخرى، وإن عانت من تضييق وتهميش بحيث لم تتطور فنون الصورة إلا داخل أسوار القصور والمساجد، لتتجلى على شكل نقوش أو زخارف. غير أن هذا لم يمنع من تصوير مقدسات دينية ورموز إسلامية غاية في التقديس، ولعل أولاها شخصية الرسول الذي تم تصويره في عدد كبير من الرسوم على مر التاريخ، بدءا من العصور الإسلامية الأولى إلى يوم الناس هذا، وهو ما يكشف عنه كلام أحمد أمين الذي اكتفى بذكر »النبي يوسف وزليخا« على سبيل المثال دون أن يخوض في ذكر نماذج أخرى كما تبين كلمة (إلخ) الواردة في نهاية حديثه. لذا يمكن تصنيف الرسوم التي تناولت صورة الرسول محمد من حيث الحقب التاريخية إلى فترتين زمنيتين:
الأولى تعود إلى العصر الإسلامي حيث كان الفن الفارسي مهيمنا، وقد تم تصوير شخصية الرسول وهو يحدث في الناس كما الحال في الصورة التي توجد في المكتبة الوطنية بباريس (المخطوط العربي 1489- fol.5v)، والأخرى التي لاتختلف عن الأولى مع فارق بسيط، وهي تصور الرسول يخطب من فوق المنبر، وتعود إلى القرن الثالث عشر الميلاي (وتوجد بخزانة جامعة إدنبرة). كما نجد صورة للرسول وهو محمولا على البوراق (تعود إلى القرن الساس عشر وتوجد ببخارى). وصورة أخرى تصور الرسول وهو يجوب رحاب الجنة وتعود إلى القرن الخامس عشر الميلاي..وغيرها كثير مما توفره المصادر التاريخية اليوم.
كما تم تناول صورة محمد في القرون الوسطى الأوربية وعصر النهضة، وهكذا نجد، إلى يومنا هذا، تمثالا برونزيا في إحدى الكنائس الأوربية يجسد الرسول محمد وهو يغلق القرآن وفوقه مجسما لملاك. وقد سبق لبوتشللي (في العام 1481) أن رسم بعض الرسوم للطبعة الأولى لـ inferno وضمنها في الجهة اليسرى من الوسط صورة محمد. كما رسم ويليام بلاك بين العامين 1824و1827 لوحة يصور فيها الرسول (وهي موجودة في المتحف الوطني بفكتوريا بأستراليا). وحتى دالي رائد المدرسة السريالية في الفن التشكيلي رسم لوحة تحمل اسم Mohammed's torment.
أما في الوقت الحاضرفإن صورة محمد لم تكن مغيبة، وإنما ظلت حاضرة وموضوعا استأثر باهتمام العديد من الفنانين. ولهذا فإن إعادة نشر المنمنمات على ظهر الأغلفة ليست سوى تجسيدا واضحا لواقع استطاع أن يتجاوز عتبة المحرم . .غير أنها جميعها تتميز بكونها منفلتة عن الدلالة المباشرة لما عبرت عنه لحظة إبداعها، أي إن المتلقي العربي/المسلم لم يبحث في دلالاتها وأصولها، وإنما تعامل معها كقطعة تراثية لا أكثر. كما أننا، بالعودة إلى الاستعمالات التي وظفت صورة الرسول، تمكنا من الوقوف عند نوع من السجائر الذي تم تسويقه في فترة ما وقد زينت علبه بصورة لشخص كتبت عليه لفظة "محمد".
كل هذا الكم من الرسوم والصور التي تعلن صراحة عن تجسيدها لصورة الرسول لم تتثر أي ضجة أو رد فعل عنيف تسجله كتب التاريخ والوقائع والأحداث، وهو راجع -كما أسلفنا- إما إلى بسبب جهل الناس بما يحدث في عالم الكتب والنشر والفن، لأن العرب هم، أصلا، أمة لاتقرأ، وإما لتساهلهم مع هذه "الاختراقات" التي كانت في مجملها فردية، وإما لأن المسلمين كانوا منشغلين بقضايا أكثر أهمية، من قبيل التحرر الوطني، وبناء دولة وطنية حداثية تستمد دعائمها من التوفيق بين "الأصالة والمعاصر". ومؤدى ذلك كله أن الإنسان العربي/المسلم كانت له أولويات ومشاريع حضارية جعلته غير آبه بصغار الأمور (الفتات).
إذن ماذا حدث..ولماذا هذا التراجع الحاد في مستوى الوعي والتلقي، خصوصا أن الأزمنة القريبة من زمن الرسول، وزمن التحريم كانت أكثر تساهلا وتفتحا..خصوصا إذا أضفنا إلى الرسوم ازدهار حركات الزندقة والإلحاد التي كان بعض أفرادها يعلنون عن أفكارهم بكل جرأة، كما حدث مع ابن الروندي مثلا..دون أن تكون هناك مطاردات عنيفة للقتل أو التنكيل بقدر ما ولدت هذه البيئة جدلا معرفيا تقوى مع الوقت وساهم في ازهار الحضارة العربية/ الإسلامية..
❊ المقدس يهاجر
لقدد تزايدت الهجرة نحو بلدان الشمال، خصوصا أوروبا وأمريكا، بعد الحرب العالمية الثانية، نتيجة ظروف اقتصادية وهو ما تزايد وتفاقم مع مطلع القرن الحالي، بسبب البطالة والفوضى والاختلالات الاقتصادية والتنموية التي عرفتها الدول المتخلفة..مما ضاعف من أعداد المهاجرين العرب والمسلمين، وهنا لابد من التمييز بين فئتين أو شريحتين: (أ) تمثل الأولى فئة متعلمة ونخب مثقفة تجمع بين العلماء والمفكرين والباحثين، وقد ساعدتهم درجاتهم العلمية والفكرية من تجاوز الصدامات، هذا إذا لم تكن المسألة الدينية تشكل بالنسبة إليهم عنصرا حساسا في حياتهم، إذ أغلبهم تحرر من الطابو الديني ومن السلط الرمزية التقديسية بما تشبعوا به من قيم وأفكار اتسمت بالتنوير والعقلانية.. وهم بذلك حققوا اندماجا هادئا ومتفاعلا مَكَّنهم من التفاعل بشكل إيجابي مع الواقع الذي هاجروا إليه..فكادت أن تنمحي الفوارق الثقافية من حيث السلوكات الظاهرة، خصوصا لدى أبنائهم الذين اختاروا لهم أن يستقروا ويندمجوا إلى حد كبير في بلدان الاستقبال؛ (ب) أما الشريحة الأخرى، والتي تشكل قاعدة عريضة من المهاجرين في هذه البلدان فإنها هاجرت بسبب أوضاعها الاقتصادية، فكان هدفهم الأول والأخير هو تحسين مستواهم المعيشي وضمان مستقبل عيشهم الذي اختاروا له، في الغالب، الادخار في بلدانهم الأصلية باعتبارها نقطة العودة بعد إقامة مؤقتة وإن طال أمدها، وهم بذلك أبعد ما يكونوا عن الأحداث الثقافية وحياة الفن والتواصل مع الجماعات الثقافية لبلدان الاستقبال..فظلوا يعيشون في جماعاتهم المنغلقة على نفسها وعلى ثقافتها، متحصنين في أفقهم الثقافي الذي أتوا به من بلدانهم إن على مستوى الفكر أو التقاليد أو العادات.. فهم لا يروا في البلدان الغربية سوى "دار حرب" ينبغي أن تتم الاستفادة منها ماديا، أما ثقافيا فإن الحضارة الإسلامية تكفيهم في كل شيء يطلبونه.. وهم بذلك ليسوا في حاجة إلى إْعادة طرح قضايا الوجود والعالم والحرية والفرد، لأنها أمور تجد أجوبة عليها داخل تراثهم.. وقد زاد من تضخم هذا الشعور اعتقادهم باستقلال التكنولوجيا وآلياتها عن آليات العقل الذي أنتجها، فازدادت بذلك قناعتهم حين تمكنوا من استعمال التقنيات، بل وأحدثها..!
غير أن التحولات التي شهدها العالم العربي والإسلامي، لم تكن في الحسبان، ولم يكن المسلمون على استعداد لتقبل عدد من الحقائق التي ظلت منفلتة عن قبضتهم وإدراكم، خصوصا أن العالم الغربي قد تعامل مع عدد من التنظيمات الإسلامية والمعارضين الإسلاميين، بنوع من المحاباة، حين استقبلهم ودلل أمامهم الصعاب ودعمهم في فترة تاريخية لا يسمح المقام بذكرها. فظل العربي/المسلم جسدا يتحرك في بلاد المهجر ولكن قلبه وروحه مسكونان بتعاطف مطلق مع واقعه في بلده.. وهكذا سرعان ما تحول طموحه من مجرد تحسين وضعه المادي إلى تنصيب نفسه مدافعا عن حرمة الدين والتاريخ العربي/الإسلامي.. فأصبح مشاركا في التظاهرات، وصار داعية لنشر الدعوة الإسلامية والتعريف بهويته التي تفوق من حيث القوة والشموخ ما وصل إليه الغرب، الذي ما كان ليكون لولا الحضارة العربية الإسلامية؟!
في ظل هذا السياق السياسي والاجتماعي وما لهما من آثار على اللحظة التاريخية للراهن العربي/الإسلامي، طفت على السطح أنواع من العنف الثقافي والصراع التي انتهت إلى شعارات تدفع إلى "صراع الحضارات" التي لم تزد المجتمعات المتخلفة سوى تقوقعا على ذاتها وعلى تراثها.. إذ في ظل الانتكاسات النهضوية والتنموية داخل بلدانها، وفي ظل غياب شبه مطلق للإبداع كانت عودة المقدس إلى الواجهة مسألة جد طبيعية.. لأن هؤلاء المهاجرون، المتشبعون بنمط من الوعي الديني، وجدوا أنفسهم أمام خيارين: أن يقبلوا بالواقع ويندمجوا، أو يدافعوا على قيمهم وثقافتهم التي لايمكن أن تفصل عن الدين الإسلامي الذي جعل منهم »خير أمة أخرجت للناس«..
فالغرب بالنسبة لهؤلاء ليس مجتمعات لها خصائصها الفكرية والثقافية، بقدرما هي بلدان "الكفر"، ومصدر ما يحدث داخل بلدانهم..وهكذا صار الإحساس بالاغتراب مضاعفا..ومن ثم أصبح دوره هو أن يكون الحارس الأمين والرقيب على كل ما يمكن أن ينال من هويته الدينية أو اللغوية..وصار أي تطرق لأية قضية لها صلة بالإسلام أو العرب تثير فيه امتعاضا، لأنه لم يعد بمقدوره أن يتحمل النقد، وفي اعتقاده، يظل مستهدفا من قبل المجتمعات التي تنفق وتخطط من أجل كسر شوكة العروبة والإسلام!
هكذا أصبحنا نشهد انتفاضات كبرى، بسبب حوادث قد تقع في أحياء هامشية، أو لما تنشره بعض الصحف المحلية التي لا تجد أي رواج أو انتشار حتى داخل المنطقة التي تصر فيها، فأحرى أن تشكل حدثا داخل بلدانها..! والمشهد يتكرر..بل وسيعرف تصعيدا وتكررا في المستقبل القريب، في ظل سيادة نمط من الوعي الذي يعيد إنتاج "المقدس"..
❊ سوء الفهم يتضخم
للوقوف عند النقطة الكاشفة لما يحدثه العقل "التقديسي" لابد من العودة إلى الصور "المسيئة للرسول" وتتبع سياقها العام:
تعود وقائع نشر الرسوم إلى شهر سبتمبر من العام 2005 حين نشرت صحيفة دانماركية مقالا بعنوان "خوف عميق من انتقاد الإسلام" وقد تناولت مثالا للرقابة الذاتية، إذ فشل صحفي دانماركي في إقناع رسامين معروفين برسم شخصية الرسول محمد في كتاب توضيحي للأطفال يتناول حياة الرسول. وقد كان من وراء هذا الامتناع خوفهم من أن يتعرضوا لنوع من أنواع العنف من قبل متشددين، خصوصا أن حادث مقتل حفيد ڤان جوخ كان مايزال في الأذهان، كما أن حادث اختطاف أستاذة محاضرة في جامعة كوبنهاجن بسبب تدريسها القرآن بطريقة لم تنل رضا مجموعة من الشباب المسلمين (في أكتوبر 2004) كان مايزال حاضرا. وقد أثار هذا المقال السياسي جعجعة في الأوساط الثقافية، بطرح العديد من التساؤلات حول المثقف والرقابة الذاتية، وهل الإسلام يعتبر دينا منزها من النقد؟ خصوصا أن الدنمارك بلد يتمتع بدرجة عالية من حرية التعبير إذ كل شيء قابل للنقد، وليس في ذلك أي فرق بين السياسي والديني، فالمقدس يسقط أمام أعتاب النقد.
هكذا دعت صحيفة يوندز بوستن مجموعة من الرسامين الكاريكاتيريين لرسم نبي الإسلام كما يتصورونه، وهي بذلك كانت تجس درجة حضور الرقابة الذاتية التي أثارت الجدل، ثم ما هي حدودها؟ وهو ما انتهى بالصحيفة إلى نشر اثنتي عشرة رسما ضمن صفحات ملحقها الثقافي وإلى جانبها مقال يحمل عنوان »وجوه محمد«، وهذا نصه: »يرفض بعض المسلمين المجتمع المدني المعاصر، وهم بذلك يطالبون باحترام مشاعرهم وثقافتهم الدينية، وهو ما يتعارض مع الديمقراطية وحرية الرأي، إذ ينبغي أن يكون المرء مستعدا لتحمل السخرية، والاستهزاء والنقد..وليس هذا معناه النيل من المشاعر الدينية..لذا فإننا نريد اليوم أن نعرف إلى أي مدى تسير الرقابة الذاتية، وهل سيستمر التضييق على الإبداع بسبب الخوف..هذا ما دفع جريداتنا إلى دعوة أعضاء اتحاد محرري الكاريكاتير الدنماركي ليرسموا محمد كما يتصورونه«...
بالعودة إلى الرسوم نشاهد مايلي:
- ورسما يصور وجها وضجمة خماسية خضراء اللون محل العين اليمنى بينما تتكون اللحية من هلال أخضر اللون، الذي يمثل رمزا للإسلام؛
- رسما يصور رأسا بعمامة هندوسية الشكل وفي أعلاها فتيل قنبلة وكتب على الجهة العليا من الجبهة عبارة "لاإله إلا الله"، كما درج على وضعها الانتحاريون الذين يتركون صور الفيديو قبل "استشهادهم"؛
- رسما يبين رجلا ملتحيا على رأسه عمامة، وخلف رأسه هلال (وهو ما أول بأن الأمر يتعلق بقرنين!)
- كروكي لمجموعة من النساء المحجبات، وكل وجه يتكون من نجمة داود وتحتها هلال وإلى جانب الصورة نص (مضمونه: "النبي! غبي ومجنون..يسجن النساء ويضطهدهن")
- رسم يبين أشكالا غير مفهومة، لولا أنها وردت ضمن الملف..وإذا كانت هناك من إساءة، فهي موجهة إلى الديانتين الإسلامية واليهودية، دون أن يكون هناك أي ورود للرسول..!
- رجل بدوي يجر حمارا وهو يتوكأ عصاه..ويستحيل أن تكون حاملة لأية إساءة!
- صورة رجل يحمل خنجرا ومن ورائه امرأتان منقبتان، وهو يتقدمهما، وليس هناك أي تضخيم أو تشويه، بقدر ما تعكس صورة نمطية عن الإنسان العربي البدوي..!
- صورة طالب يقف بجانب السبورة وهو يشرح..وقد كتب على السبورة بخط عربي. والطالب يشار إليه بسهم وكتب بخط عربي "محمد"؛ وهو يرتدي قميصا كتب عليه لفظ "المستقبل"!
- رسم آخر يجسد صورة رجل يقف أمام مجموعة من الانتحاريين الذين نفذوا العمليات ، وهم جميعا فوق السحاب.. وهو يخبرهم بأن العذارى قد نفذن!
- صورة تبين رجلا ملتحي الوجه!
- صورة تبين سبعة وجوه تقف أمام رجل يحاول أن يتعرف على مرتكب الجريمة، والمشتبه بهم من مختلف الديانات، المسيحي، والبوذي، وأيضا بينهم الصحفي الذي كان من وراء المشكلة!
- رجل يقف وهو يمنع جنديين غاضبين يشهران سيفاهما قائلا: »اهدآ..إنه رسم لرجل غير مؤمن«..!
إن عرضنا هذا لمحتوى الصور، هو في حد ذاته كشف عن الصورة التضخيمية لمفهوم "الإساءة"، بحيث إنها رسوم حاول من خلالها أصحابها أن يصوروا ما يرونه هم عن الإسلام.. أي إنها الصورة التي كونها الآخر عن المسلم والإسلام.. والحال أنه لو نحن تمعنا، وقاربنا القضية بنوع من الموضوعية، لرأينا أن الرسوم ضعيفة الدلالة بالمقارنة مع الصورة التي لايتوقف العالم الإسلامي عن إنتاجها.. فالآخر لايتوقف عن مشاهدة صورة "انتحاريين" وهم يكتبون على جباههم عبارة التوحيد، كما أنهم لايتوقفون عن ترديد التشبت بالسلف الصالح.. إن هؤلاء هم الذين أعطوا ملامح لهذه الرسوم التي لم يعمل رساموها سوى أنهم جسدوها، أي انتقلوا بها من القوة إلى الفعل كما يقول الفلاسفة!! لذلك فإن الإساة لم تأت من الآخر بقدر ما كان مصدرها الثقافة السائدة والوعي المهيمن..إذ هل تستحق هذه الرسوم كل هذه الانتفاضة، وهذا الاحتجاج..؟
تبعا لتايلور، فإن الذات تتمرد ضد الآخر عن طريق الرفض بالعمل على استبعاد الاختلاف، لكي تتمكن من استعادة تمالكها، وذلك بهدف صيانة هويتها ، فيصبح الإثبات الهجومي دفاعا، ومن ثم فإن العمل العدواني العنيف ليس سوى رد فعل صادر عن العجز..
الإحباط يقود إلى العدوان، وتندرج تحت الإحباط شروط عدوان متنوعة تتراوح ما بين الإيذاء الجسدي والإهانة، والصدمة بقدر ما تدفع إلى إكتشاف الحقائق وفهمها بصورة مختلفة عن كل فهم سائد في الوعي الاجتماعي للأشياء فإنها تتحول في ظروف ما إلى شحنة هائلة للمقاومة والارتداد إلى الوراء. فهل يحتاج المجتمع الإسلامي/العربي إلى رجات عنيفة، قد تجعله يتفطن ذات يوم إلى حاله وتدفعه إلى مراجعة نفسه، بدءا من تاريخه وأحداثه وتصوراته و "عقله"، ويقف موقفة المتأمل لما يحدث حوله وداخله.. أم إنه سيظل في حاجة إلى من يحاوره بشكل سكوني وهادئ، دون أن يكون هو مستعدا للقيام بهذا الدور؟ أم إن ردات أفعاله بهذا الشكل تظل تلقائية وطبيعية بنيوية؟
❊ عودة دونكشوت
ثمة مشهد في »الدون كيشوت« يحكي قصة الدون كيشوت رفقة سانكو وهما في طريقهما إلى برشلونة، مرا بعصابة من اللصوص وجدوهم يتقاسمون غنائمهم، فوقف الفارس مندهشا، الأمر الذي دفع زعيم العصابة إلى القول: »إنني إذا لم ألتزم العدل بين رجالي لتعذرت علي الحياة معهم« فرد سانكو بسخريته وهزله: »إني إذا حكمت بما قد شهدت الآن لقلت إن العدالة شيء جميل ينبغي التمسك به حتى بين اللصوص«؛ فانتفض اللصوص وكادوا أن يفتكوا به لأنه اجترأ على تسمية اللصوص لصوصا..! لأن أصعب موقف يواجهه الفرد هو أن يواجهَ بالحقيقة التي سخر كل طاقته من أجل إتلافها والتستر عنها..فهل يزعج الإنسان العربي والمسلم أن توضع أمام وجهه مرآة تكشف ما لم يكن يراه أو يتوقع أن الآخر يعرفه!!
يبدو من خلال كل ما سبق، أن الأمر لا يقتصر على حلول للخروج من الأزمة، لأنها ستظل بدون فائدة ولن تكون لها أية فعالية، مادامت لم تأت من داخل المجتمع العربي/الإسلامي، كل ما ينبغي القيام به اليوم هو خلق تواصل منتج وفاعل مع الماضي، وإحداث مصالحة مع الإرث التاريخي والديني والثقافي، ثم الكشف عن جوانب من الحقيقة التي ظلت مغيبة ومهمشة سواء عن عمد أو عن جهل..إذ لم تعد مسألة الهوية أو المحافظة عليها تنحصر في "التسييج" و "التحصن" من الخارج، وإنما في القدرة على تداول الفكر والاختلاف والبحث عن الهوية باعتبارها خصوصية ومنطلقا للحوار مع الهويات الأخرى، ولأننا عندما نتواصل -كما تقول باربرا ويتمر- فإننا ننقل أفكارنا وتجاربنا، وأفكار وتجارب الآخرين، وننقل أساليب تنظيم الأفكار والتجارب وفهمها، كما ننقل الاندماج الثقافي لكل الأمور في بنية تحتية لهوية ترشيد الفهم والسلوك الجماعيين.. لذلك ينبغي الوعي بوجود أزمة، ثم الوعي بأن الواقع لم يعد كما تتصوره المجتمعات العربية وأن ما يُعتقد أنه انتصار ليس في النهاية سوى إعلان واضح عن كبرى الهزائم..
خالد سليكي
الجمعة 14 شتنبر 2012 - 13:25
هوامش إضافية حول الرسوم
يقول ديريدا: »إن الهوية لا تعُطى أبدا، ولا تؤخذ، أو تُبلغ؛ العملية اللامتناهية والوهمية بشكل غير محدود هي فقط التي تظل (ويبقى). ومهما كانت قصة عودة المرء إلى ذاته أو سكنه، إلى سقف بيته، ومهما كانت الأوديسة (والترحال الطويل) أو رواية تكوين الشخصية، أو بأي شكل ابتكر المرء قصة بناء الذات، الذوات أو النفس، فإنه يتخيل دوما أن الذي يكتب عليه أن يعرف كيف يقول "أنا"« ثم يقول »يمكنني أن أقتل الآخر، دون أن أضع حدا لحياته، ويمكنني أن أكون عدوانيا بشكل لايمكن رصده«.
من أهم السمات المميزة للعربي/المسلم، اليوم، هي شدة انفعاله لأتفه القضايا وشدة مقاومته للآخر إذا ما تجرأ على تناول إحدى "مقدساته" .. فيتحد الجميع من أجل التظاهر والانتفاض ورفع الشعارات، التي قد تصل في بعض الأحيان إلى التخريب والفوضى..لكن حين يتعلق الأمر بقضايا تمس حياته الاجتماعية والسياسية والاقتصادية، فإنه سرعان ما يتراجع إلى الوراء غير آبه بما يقع ويحدث من حوله..وهو في ذلك "يوكل" أمره "لله"..هكذا يصبح العربي/المسلم مهتما بكل القضايا الكبرى، فيناقش، رجل الشارع، والفقيه، والصانع، والأمي والذي لم ينل أي نصيب من التعليم، مسألة الحجاب، وقضايا الفقه والقرآن والسنة، والتاريخ والصراعات الدولية، والعولمة، والإمبريالية، وحين يسمع بمنع كتاب بسبب تناوله لمسألة تمس المقدس، فإنه يخرج إلى الشارع ويحاول أن ينال نصيبه من الأجر الموزع، عسى أن تتاح له فرصة النيل من صاحبه ولو بتمزيق صورته..فصار اسم نصر حامد أبو زيد، وطه حسين، وسلمان رشدي وغيرهم، من الأسماء التي يناقشون أبحاثهم بما يقرأونه من نتف مجتزأة من سياقاتها، ومزورة ومحرفة في "صحافة الظلام".. لأنه يصعب عليهم فهم جملة واحدة من أعمال هؤلاء الذين هم براء من كل ما يلصق بهم.
أصبحت حرية الفكر والتفكير في الزمن العربي/الإسلامي مليئة بالمخاطر ومحفوفة بالمصاعب والذعر والخوف.. إنها باختصار محاكم تفتيش من نوع جديد تمارس رقابة على قلوب ونوايا الناس، خاصة من يحمل فكرا متنورا وعقلانيا..
إن المشهد يتكرر كل يوم، وصارت المجتمعات العربية/ الإسلامية فضاء للنقد والتجريم والتكفير..فطوال قرون من الزمن و"فقهاء الظلام" يتربصون ويجتهدون في تصريف وتداول أدوات القمع، فشكلوا عائقا قويا بسيوفهم التي تجهز على " رقاب العُزل" الذين لايحملون غير الأقلام..هم يقفون شاهرين أعتى وسائل التنكيل.. فصيَّروا الحياة العامة والحريات عبارة عن جهنم، مما فع بالعديد من المثقفين إلى المنفى الاختياري، أو إلى العيش في حالة اللاستقرار والتخفي.. لذا فإن السياق العام الذي يتفجر فيه الشارع العربي/الإسلامي معبرا عن مقاومته والدفاع عن مقدساته، هو سياق متورم، ومتخن بالانحطاط الفكري الذي تهيمن عليه العقلية الفقهية السلفية في صورها الأكثر ظلامية وانسدادا..
نسوق هذا الحديث لأنه يكفي، اليوم، أن تلصق بقضية ما، كيفما كانت طبيعتها، تهمة المس بالمقدس الديني لكي تشتعل الشوارع العربية/الإسلامية وتندد وتقاطع المنتوجات وتحرق رموز العقلانية.. لذلك ليس غريبا، أن تحاكم »وليمة لأعشاب البحر« بعد مرور سنوات على صدورها! في الوقت الذي تكون الخلفيات المحركة لهذه الردود لا علاقة لها بالدفاع عن الدين بقدر ما هي محكومة بخلفيات سياسوية دنيوية ونفعية خالصة.. وهي أمور ليست غريبة على تاريخ الحضارة الإسلامية، التي لم يشهر فيها سيف إلا من خلفية سياسية.. لأن الدين كان دائما في خدمة السياسة والحكم ولم تكن السياسة في خدمة الدين!
كل هذا يكشف لنا أن »الرسوم المسيئة« التي أثارت زوبعة في كل أنحاء العالم الإسلامي، كان من ورائها سوء فهم ناتج عن الجهل بأدنى مقاييس الخطاب الذي يوظف الصورة كأداة، هذا إلى جانب الجهل بالمكونات الثقافية للمجتمعات غير الإسلامية؛ بحيث يسقطون تصوراتهم ورؤاهم على الآخر، في تغييب واضح لمفاهيم الاختلاف الثقافي والتنوع الذي يمثل شرطا أساسيا داخل المجتمع الإنساني..ومن هنا كانت ضرورة الوقوف على هذه الرسوم، وتحليلها ومعرفة مضامين كل رسم، ثم نظرة المتلقي الدانماركي الذي هو المخاطب الأول والقارئ لهذه الصحف.
❊ تاريخ مرتبك
يرى أحمد أمين أن الإسلام لم يتوان في محاربة الأصنام والتماثيل، بل وعمل على التشديد على هذا التحريم مكرها التصوير والمصورين، لذلك لم ينمُ التصوير والتمثيل في الإسلام نموا كافيا، غير أن الطبيعة البشرية تميل إلى الرقة والفن، ولما كان الإسلام ينهى عن التصوير فإن المسلمين وجدوا منافذ أخرى منها التجويد في الخط والغناء بالقرآن كبديل عن تحريم الغنا وغيرها..وكان لدخول الأمم غير العربية في الإسلام أثر واضح على الحياة الفنية، وهكذا ظهرت في القرن الرابع الصورة المجسمة للحيوانات وإن كانت بعيدة شيئا ما عن الطبيعة، ومع ذلك فقد مهر قوم في تصوير الأشخاص والحيوان كما فعل بعض الفرس، ويضيف أحمد أمين أنه سمع محاضرة ألقاها بعض المستشرقين عن مصحف فارسي مصور صورت فيه مثلا صورة يوسف وزليخا (ضحى الإسلام؛ ج2. ص.236-238).
وإذا كان الواسطي يعتبر أهم وأول مصور في تاريخ الإسلام، فإن ذلك لم يمنع من وجود مصورين سبقوه.. وهذا يعني أن تحريم الصورة لم يحسم فيه دينيا، فبعد الجدال حول الصورة صدر نص صريح في حدود عام 720 ميلادية من قبل سلطة سياسية على يد الخليفة الأموي يزيد بن عبد الملك، وهكذا سيحسم في الأمر بقرار سياسي. ومع الواسطي (القرن 12 الميلادي) ستعرف الصورة حضورا متميزا، إذ تمكن بالخروج بها إلى الحياة على الرغم من الحساسية التي كانت لدى المجتمع تجاه الفن بشكل عام، حيث استطاع أن يرسم لوحات تتناول المرأة كموضوع، فصور الولادة في وقت كان يحرم على المرأة أن تظهر في الحياة العامة أو أن يراها الرجل في حالة من السفور، وقد تجاوز ذلك إلى رسم الأعضاء التناسلية للمرأة مصورا جسدها دون أن تكون دلالاته ذات إيحاءات جنسية وإن كانت أثارت بعض ردود الفعل.. وهو في ذلك عمل على تصوير الحياة اليومية من دون مجاملة أو تنميق، إذ تعكس لوحاته مجالس الخمر والطرب، ومجالس القضاة وقوافل الحج، إلى جانب ذلك صور الأشكال الآدمية دون أن يلزم نفسه بالمحرمات الدينية..وقد أجمع النقاد على أنه لم يصور الواقع كما يتمناه وإنما صوره كما هو. وإجمالا فالواسطي بعمله هذا استطاع أن يخرق المحرمات الدينية فتناول الجسد النسائي العاري، كما أدخل الفراغ في اللوحة (وهو -الفراغ- من الأمور التي لم تكن بحيث يعتبر الفراغ من الشيطان).
الملاحظ أن ما يعرف، اليوم بالمنمنمات هي تجسيد لوقائع لها امتداداتها الواقعية، وهي تجسيد لحياة المجتمع الإسلامي كما هو واضح من الرسوم التي وصلتنا. ولم تكن تشكل أي عائق في مسار الحضارة الإسلامية، بقدر ما تعايشت مع باقي المكونات الثقافية الأخرى، وإن عانت من تضييق وتهميش بحيث لم تتطور فنون الصورة إلا داخل أسوار القصور والمساجد، لتتجلى على شكل نقوش أو زخارف. غير أن هذا لم يمنع من تصوير مقدسات دينية ورموز إسلامية غاية في التقديس، ولعل أولاها شخصية الرسول الذي تم تصويره في عدد كبير من الرسوم على مر التاريخ، بدءا من العصور الإسلامية الأولى إلى يوم الناس هذا، وهو ما يكشف عنه كلام أحمد أمين الذي اكتفى بذكر »النبي يوسف وزليخا« على سبيل المثال دون أن يخوض في ذكر نماذج أخرى كما تبين كلمة (إلخ) الواردة في نهاية حديثه. لذا يمكن تصنيف الرسوم التي تناولت صورة الرسول محمد من حيث الحقب التاريخية إلى فترتين زمنيتين:
الأولى تعود إلى العصر الإسلامي حيث كان الفن الفارسي مهيمنا، وقد تم تصوير شخصية الرسول وهو يحدث في الناس كما الحال في الصورة التي توجد في المكتبة الوطنية بباريس (المخطوط العربي 1489- fol.5v)، والأخرى التي لاتختلف عن الأولى مع فارق بسيط، وهي تصور الرسول يخطب من فوق المنبر، وتعود إلى القرن الثالث عشر الميلاي (وتوجد بخزانة جامعة إدنبرة). كما نجد صورة للرسول وهو محمولا على البوراق (تعود إلى القرن الساس عشر وتوجد ببخارى). وصورة أخرى تصور الرسول وهو يجوب رحاب الجنة وتعود إلى القرن الخامس عشر الميلاي..وغيرها كثير مما توفره المصادر التاريخية اليوم.
كما تم تناول صورة محمد في القرون الوسطى الأوربية وعصر النهضة، وهكذا نجد، إلى يومنا هذا، تمثالا برونزيا في إحدى الكنائس الأوربية يجسد الرسول محمد وهو يغلق القرآن وفوقه مجسما لملاك. وقد سبق لبوتشللي (في العام 1481) أن رسم بعض الرسوم للطبعة الأولى لـ inferno وضمنها في الجهة اليسرى من الوسط صورة محمد. كما رسم ويليام بلاك بين العامين 1824و1827 لوحة يصور فيها الرسول (وهي موجودة في المتحف الوطني بفكتوريا بأستراليا). وحتى دالي رائد المدرسة السريالية في الفن التشكيلي رسم لوحة تحمل اسم Mohammed's torment.
أما في الوقت الحاضرفإن صورة محمد لم تكن مغيبة، وإنما ظلت حاضرة وموضوعا استأثر باهتمام العديد من الفنانين. ولهذا فإن إعادة نشر المنمنمات على ظهر الأغلفة ليست سوى تجسيدا واضحا لواقع استطاع أن يتجاوز عتبة المحرم . .غير أنها جميعها تتميز بكونها منفلتة عن الدلالة المباشرة لما عبرت عنه لحظة إبداعها، أي إن المتلقي العربي/المسلم لم يبحث في دلالاتها وأصولها، وإنما تعامل معها كقطعة تراثية لا أكثر. كما أننا، بالعودة إلى الاستعمالات التي وظفت صورة الرسول، تمكنا من الوقوف عند نوع من السجائر الذي تم تسويقه في فترة ما وقد زينت علبه بصورة لشخص كتبت عليه لفظة "محمد".
كل هذا الكم من الرسوم والصور التي تعلن صراحة عن تجسيدها لصورة الرسول لم تتثر أي ضجة أو رد فعل عنيف تسجله كتب التاريخ والوقائع والأحداث، وهو راجع -كما أسلفنا- إما إلى بسبب جهل الناس بما يحدث في عالم الكتب والنشر والفن، لأن العرب هم، أصلا، أمة لاتقرأ، وإما لتساهلهم مع هذه "الاختراقات" التي كانت في مجملها فردية، وإما لأن المسلمين كانوا منشغلين بقضايا أكثر أهمية، من قبيل التحرر الوطني، وبناء دولة وطنية حداثية تستمد دعائمها من التوفيق بين "الأصالة والمعاصر". ومؤدى ذلك كله أن الإنسان العربي/المسلم كانت له أولويات ومشاريع حضارية جعلته غير آبه بصغار الأمور (الفتات).
إذن ماذا حدث..ولماذا هذا التراجع الحاد في مستوى الوعي والتلقي، خصوصا أن الأزمنة القريبة من زمن الرسول، وزمن التحريم كانت أكثر تساهلا وتفتحا..خصوصا إذا أضفنا إلى الرسوم ازدهار حركات الزندقة والإلحاد التي كان بعض أفرادها يعلنون عن أفكارهم بكل جرأة، كما حدث مع ابن الروندي مثلا..دون أن تكون هناك مطاردات عنيفة للقتل أو التنكيل بقدر ما ولدت هذه البيئة جدلا معرفيا تقوى مع الوقت وساهم في ازهار الحضارة العربية/ الإسلامية..
❊ المقدس يهاجر
لقدد تزايدت الهجرة نحو بلدان الشمال، خصوصا أوروبا وأمريكا، بعد الحرب العالمية الثانية، نتيجة ظروف اقتصادية وهو ما تزايد وتفاقم مع مطلع القرن الحالي، بسبب البطالة والفوضى والاختلالات الاقتصادية والتنموية التي عرفتها الدول المتخلفة..مما ضاعف من أعداد المهاجرين العرب والمسلمين، وهنا لابد من التمييز بين فئتين أو شريحتين: (أ) تمثل الأولى فئة متعلمة ونخب مثقفة تجمع بين العلماء والمفكرين والباحثين، وقد ساعدتهم درجاتهم العلمية والفكرية من تجاوز الصدامات، هذا إذا لم تكن المسألة الدينية تشكل بالنسبة إليهم عنصرا حساسا في حياتهم، إذ أغلبهم تحرر من الطابو الديني ومن السلط الرمزية التقديسية بما تشبعوا به من قيم وأفكار اتسمت بالتنوير والعقلانية.. وهم بذلك حققوا اندماجا هادئا ومتفاعلا مَكَّنهم من التفاعل بشكل إيجابي مع الواقع الذي هاجروا إليه..فكادت أن تنمحي الفوارق الثقافية من حيث السلوكات الظاهرة، خصوصا لدى أبنائهم الذين اختاروا لهم أن يستقروا ويندمجوا إلى حد كبير في بلدان الاستقبال؛ (ب) أما الشريحة الأخرى، والتي تشكل قاعدة عريضة من المهاجرين في هذه البلدان فإنها هاجرت بسبب أوضاعها الاقتصادية، فكان هدفهم الأول والأخير هو تحسين مستواهم المعيشي وضمان مستقبل عيشهم الذي اختاروا له، في الغالب، الادخار في بلدانهم الأصلية باعتبارها نقطة العودة بعد إقامة مؤقتة وإن طال أمدها، وهم بذلك أبعد ما يكونوا عن الأحداث الثقافية وحياة الفن والتواصل مع الجماعات الثقافية لبلدان الاستقبال..فظلوا يعيشون في جماعاتهم المنغلقة على نفسها وعلى ثقافتها، متحصنين في أفقهم الثقافي الذي أتوا به من بلدانهم إن على مستوى الفكر أو التقاليد أو العادات.. فهم لا يروا في البلدان الغربية سوى "دار حرب" ينبغي أن تتم الاستفادة منها ماديا، أما ثقافيا فإن الحضارة الإسلامية تكفيهم في كل شيء يطلبونه.. وهم بذلك ليسوا في حاجة إلى إْعادة طرح قضايا الوجود والعالم والحرية والفرد، لأنها أمور تجد أجوبة عليها داخل تراثهم.. وقد زاد من تضخم هذا الشعور اعتقادهم باستقلال التكنولوجيا وآلياتها عن آليات العقل الذي أنتجها، فازدادت بذلك قناعتهم حين تمكنوا من استعمال التقنيات، بل وأحدثها..!
غير أن التحولات التي شهدها العالم العربي والإسلامي، لم تكن في الحسبان، ولم يكن المسلمون على استعداد لتقبل عدد من الحقائق التي ظلت منفلتة عن قبضتهم وإدراكم، خصوصا أن العالم الغربي قد تعامل مع عدد من التنظيمات الإسلامية والمعارضين الإسلاميين، بنوع من المحاباة، حين استقبلهم ودلل أمامهم الصعاب ودعمهم في فترة تاريخية لا يسمح المقام بذكرها. فظل العربي/المسلم جسدا يتحرك في بلاد المهجر ولكن قلبه وروحه مسكونان بتعاطف مطلق مع واقعه في بلده.. وهكذا سرعان ما تحول طموحه من مجرد تحسين وضعه المادي إلى تنصيب نفسه مدافعا عن حرمة الدين والتاريخ العربي/الإسلامي.. فأصبح مشاركا في التظاهرات، وصار داعية لنشر الدعوة الإسلامية والتعريف بهويته التي تفوق من حيث القوة والشموخ ما وصل إليه الغرب، الذي ما كان ليكون لولا الحضارة العربية الإسلامية؟!
في ظل هذا السياق السياسي والاجتماعي وما لهما من آثار على اللحظة التاريخية للراهن العربي/الإسلامي، طفت على السطح أنواع من العنف الثقافي والصراع التي انتهت إلى شعارات تدفع إلى "صراع الحضارات" التي لم تزد المجتمعات المتخلفة سوى تقوقعا على ذاتها وعلى تراثها.. إذ في ظل الانتكاسات النهضوية والتنموية داخل بلدانها، وفي ظل غياب شبه مطلق للإبداع كانت عودة المقدس إلى الواجهة مسألة جد طبيعية.. لأن هؤلاء المهاجرون، المتشبعون بنمط من الوعي الديني، وجدوا أنفسهم أمام خيارين: أن يقبلوا بالواقع ويندمجوا، أو يدافعوا على قيمهم وثقافتهم التي لايمكن أن تفصل عن الدين الإسلامي الذي جعل منهم »خير أمة أخرجت للناس«..
فالغرب بالنسبة لهؤلاء ليس مجتمعات لها خصائصها الفكرية والثقافية، بقدرما هي بلدان "الكفر"، ومصدر ما يحدث داخل بلدانهم..وهكذا صار الإحساس بالاغتراب مضاعفا..ومن ثم أصبح دوره هو أن يكون الحارس الأمين والرقيب على كل ما يمكن أن ينال من هويته الدينية أو اللغوية..وصار أي تطرق لأية قضية لها صلة بالإسلام أو العرب تثير فيه امتعاضا، لأنه لم يعد بمقدوره أن يتحمل النقد، وفي اعتقاده، يظل مستهدفا من قبل المجتمعات التي تنفق وتخطط من أجل كسر شوكة العروبة والإسلام!
هكذا أصبحنا نشهد انتفاضات كبرى، بسبب حوادث قد تقع في أحياء هامشية، أو لما تنشره بعض الصحف المحلية التي لا تجد أي رواج أو انتشار حتى داخل المنطقة التي تصر فيها، فأحرى أن تشكل حدثا داخل بلدانها..! والمشهد يتكرر..بل وسيعرف تصعيدا وتكررا في المستقبل القريب، في ظل سيادة نمط من الوعي الذي يعيد إنتاج "المقدس"..
❊ سوء الفهم يتضخم
للوقوف عند النقطة الكاشفة لما يحدثه العقل "التقديسي" لابد من العودة إلى الصور "المسيئة للرسول" وتتبع سياقها العام:
تعود وقائع نشر الرسوم إلى شهر سبتمبر من العام 2005 حين نشرت صحيفة دانماركية مقالا بعنوان "خوف عميق من انتقاد الإسلام" وقد تناولت مثالا للرقابة الذاتية، إذ فشل صحفي دانماركي في إقناع رسامين معروفين برسم شخصية الرسول محمد في كتاب توضيحي للأطفال يتناول حياة الرسول. وقد كان من وراء هذا الامتناع خوفهم من أن يتعرضوا لنوع من أنواع العنف من قبل متشددين، خصوصا أن حادث مقتل حفيد ڤان جوخ كان مايزال في الأذهان، كما أن حادث اختطاف أستاذة محاضرة في جامعة كوبنهاجن بسبب تدريسها القرآن بطريقة لم تنل رضا مجموعة من الشباب المسلمين (في أكتوبر 2004) كان مايزال حاضرا. وقد أثار هذا المقال السياسي جعجعة في الأوساط الثقافية، بطرح العديد من التساؤلات حول المثقف والرقابة الذاتية، وهل الإسلام يعتبر دينا منزها من النقد؟ خصوصا أن الدنمارك بلد يتمتع بدرجة عالية من حرية التعبير إذ كل شيء قابل للنقد، وليس في ذلك أي فرق بين السياسي والديني، فالمقدس يسقط أمام أعتاب النقد.
هكذا دعت صحيفة يوندز بوستن مجموعة من الرسامين الكاريكاتيريين لرسم نبي الإسلام كما يتصورونه، وهي بذلك كانت تجس درجة حضور الرقابة الذاتية التي أثارت الجدل، ثم ما هي حدودها؟ وهو ما انتهى بالصحيفة إلى نشر اثنتي عشرة رسما ضمن صفحات ملحقها الثقافي وإلى جانبها مقال يحمل عنوان »وجوه محمد«، وهذا نصه: »يرفض بعض المسلمين المجتمع المدني المعاصر، وهم بذلك يطالبون باحترام مشاعرهم وثقافتهم الدينية، وهو ما يتعارض مع الديمقراطية وحرية الرأي، إذ ينبغي أن يكون المرء مستعدا لتحمل السخرية، والاستهزاء والنقد..وليس هذا معناه النيل من المشاعر الدينية..لذا فإننا نريد اليوم أن نعرف إلى أي مدى تسير الرقابة الذاتية، وهل سيستمر التضييق على الإبداع بسبب الخوف..هذا ما دفع جريداتنا إلى دعوة أعضاء اتحاد محرري الكاريكاتير الدنماركي ليرسموا محمد كما يتصورونه«...
بالعودة إلى الرسوم نشاهد مايلي:
- ورسما يصور وجها وضجمة خماسية خضراء اللون محل العين اليمنى بينما تتكون اللحية من هلال أخضر اللون، الذي يمثل رمزا للإسلام؛
- رسما يصور رأسا بعمامة هندوسية الشكل وفي أعلاها فتيل قنبلة وكتب على الجهة العليا من الجبهة عبارة "لاإله إلا الله"، كما درج على وضعها الانتحاريون الذين يتركون صور الفيديو قبل "استشهادهم"؛
- رسما يبين رجلا ملتحيا على رأسه عمامة، وخلف رأسه هلال (وهو ما أول بأن الأمر يتعلق بقرنين!)
- كروكي لمجموعة من النساء المحجبات، وكل وجه يتكون من نجمة داود وتحتها هلال وإلى جانب الصورة نص (مضمونه: "النبي! غبي ومجنون..يسجن النساء ويضطهدهن")
- رسم يبين أشكالا غير مفهومة، لولا أنها وردت ضمن الملف..وإذا كانت هناك من إساءة، فهي موجهة إلى الديانتين الإسلامية واليهودية، دون أن يكون هناك أي ورود للرسول..!
- رجل بدوي يجر حمارا وهو يتوكأ عصاه..ويستحيل أن تكون حاملة لأية إساءة!
- صورة رجل يحمل خنجرا ومن ورائه امرأتان منقبتان، وهو يتقدمهما، وليس هناك أي تضخيم أو تشويه، بقدر ما تعكس صورة نمطية عن الإنسان العربي البدوي..!
- صورة طالب يقف بجانب السبورة وهو يشرح..وقد كتب على السبورة بخط عربي. والطالب يشار إليه بسهم وكتب بخط عربي "محمد"؛ وهو يرتدي قميصا كتب عليه لفظ "المستقبل"!
- رسم آخر يجسد صورة رجل يقف أمام مجموعة من الانتحاريين الذين نفذوا العمليات ، وهم جميعا فوق السحاب.. وهو يخبرهم بأن العذارى قد نفذن!
- صورة تبين رجلا ملتحي الوجه!
- صورة تبين سبعة وجوه تقف أمام رجل يحاول أن يتعرف على مرتكب الجريمة، والمشتبه بهم من مختلف الديانات، المسيحي، والبوذي، وأيضا بينهم الصحفي الذي كان من وراء المشكلة!
- رجل يقف وهو يمنع جنديين غاضبين يشهران سيفاهما قائلا: »اهدآ..إنه رسم لرجل غير مؤمن«..!
إن عرضنا هذا لمحتوى الصور، هو في حد ذاته كشف عن الصورة التضخيمية لمفهوم "الإساءة"، بحيث إنها رسوم حاول من خلالها أصحابها أن يصوروا ما يرونه هم عن الإسلام.. أي إنها الصورة التي كونها الآخر عن المسلم والإسلام.. والحال أنه لو نحن تمعنا، وقاربنا القضية بنوع من الموضوعية، لرأينا أن الرسوم ضعيفة الدلالة بالمقارنة مع الصورة التي لايتوقف العالم الإسلامي عن إنتاجها.. فالآخر لايتوقف عن مشاهدة صورة "انتحاريين" وهم يكتبون على جباههم عبارة التوحيد، كما أنهم لايتوقفون عن ترديد التشبت بالسلف الصالح.. إن هؤلاء هم الذين أعطوا ملامح لهذه الرسوم التي لم يعمل رساموها سوى أنهم جسدوها، أي انتقلوا بها من القوة إلى الفعل كما يقول الفلاسفة!! لذلك فإن الإساة لم تأت من الآخر بقدر ما كان مصدرها الثقافة السائدة والوعي المهيمن..إذ هل تستحق هذه الرسوم كل هذه الانتفاضة، وهذا الاحتجاج..؟
تبعا لتايلور، فإن الذات تتمرد ضد الآخر عن طريق الرفض بالعمل على استبعاد الاختلاف، لكي تتمكن من استعادة تمالكها، وذلك بهدف صيانة هويتها ، فيصبح الإثبات الهجومي دفاعا، ومن ثم فإن العمل العدواني العنيف ليس سوى رد فعل صادر عن العجز..
الإحباط يقود إلى العدوان، وتندرج تحت الإحباط شروط عدوان متنوعة تتراوح ما بين الإيذاء الجسدي والإهانة، والصدمة بقدر ما تدفع إلى إكتشاف الحقائق وفهمها بصورة مختلفة عن كل فهم سائد في الوعي الاجتماعي للأشياء فإنها تتحول في ظروف ما إلى شحنة هائلة للمقاومة والارتداد إلى الوراء. فهل يحتاج المجتمع الإسلامي/العربي إلى رجات عنيفة، قد تجعله يتفطن ذات يوم إلى حاله وتدفعه إلى مراجعة نفسه، بدءا من تاريخه وأحداثه وتصوراته و "عقله"، ويقف موقفة المتأمل لما يحدث حوله وداخله.. أم إنه سيظل في حاجة إلى من يحاوره بشكل سكوني وهادئ، دون أن يكون هو مستعدا للقيام بهذا الدور؟ أم إن ردات أفعاله بهذا الشكل تظل تلقائية وطبيعية بنيوية؟
❊ عودة دونكشوت
ثمة مشهد في »الدون كيشوت« يحكي قصة الدون كيشوت رفقة سانكو وهما في طريقهما إلى برشلونة، مرا بعصابة من اللصوص وجدوهم يتقاسمون غنائمهم، فوقف الفارس مندهشا، الأمر الذي دفع زعيم العصابة إلى القول: »إنني إذا لم ألتزم العدل بين رجالي لتعذرت علي الحياة معهم« فرد سانكو بسخريته وهزله: »إني إذا حكمت بما قد شهدت الآن لقلت إن العدالة شيء جميل ينبغي التمسك به حتى بين اللصوص«؛ فانتفض اللصوص وكادوا أن يفتكوا به لأنه اجترأ على تسمية اللصوص لصوصا..! لأن أصعب موقف يواجهه الفرد هو أن يواجهَ بالحقيقة التي سخر كل طاقته من أجل إتلافها والتستر عنها..فهل يزعج الإنسان العربي والمسلم أن توضع أمام وجهه مرآة تكشف ما لم يكن يراه أو يتوقع أن الآخر يعرفه!!
يبدو من خلال كل ما سبق، أن الأمر لا يقتصر على حلول للخروج من الأزمة، لأنها ستظل بدون فائدة ولن تكون لها أية فعالية، مادامت لم تأت من داخل المجتمع العربي/الإسلامي، كل ما ينبغي القيام به اليوم هو خلق تواصل منتج وفاعل مع الماضي، وإحداث مصالحة مع الإرث التاريخي والديني والثقافي، ثم الكشف عن جوانب من الحقيقة التي ظلت مغيبة ومهمشة سواء عن عمد أو عن جهل..إذ لم تعد مسألة الهوية أو المحافظة عليها تنحصر في "التسييج" و "التحصن" من الخارج، وإنما في القدرة على تداول الفكر والاختلاف والبحث عن الهوية باعتبارها خصوصية ومنطلقا للحوار مع الهويات الأخرى، ولأننا عندما نتواصل -كما تقول باربرا ويتمر- فإننا ننقل أفكارنا وتجاربنا، وأفكار وتجارب الآخرين، وننقل أساليب تنظيم الأفكار والتجارب وفهمها، كما ننقل الاندماج الثقافي لكل الأمور في بنية تحتية لهوية ترشيد الفهم والسلوك الجماعيين.. لذلك ينبغي الوعي بوجود أزمة، ثم الوعي بأن الواقع لم يعد كما تتصوره المجتمعات العربية وأن ما يُعتقد أنه انتصار ليس في النهاية سوى إعلان واضح عن كبرى الهزائم..
صفحة 1 من اصل 1
صلاحيات هذا المنتدى:
لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى
الإثنين أغسطس 28, 2023 5:54 am من طرف sghiri
» نظرية النافذة المكسورة
الإثنين أغسطس 28, 2023 5:52 am من طرف sghiri
» تقرير عن ندوة المثقف و المجتمع بمكناس
الأربعاء نوفمبر 12, 2014 2:25 pm من طرف sumaya bakria
» الحكامة الأمنية
الثلاثاء أغسطس 12, 2014 5:02 pm من طرف sghiri
» ما السوسيولوجيا القروية؟
الإثنين فبراير 10, 2014 6:52 pm من طرف زائر
» أسئلة اختبارات علم الإجتماع .... من الفصل الأول إلى الرابع
الإثنين يناير 13, 2014 12:46 pm من طرف sghiri
» عرض في مادة انتروبولوجيا العالم الاسلامي 2009
الأربعاء ديسمبر 04, 2013 12:28 pm من طرف rachidov20
» موقع لتحميل الكتب في مجالات مختلفة
الثلاثاء ديسمبر 03, 2013 6:35 pm من طرف sghiri
» تحميل كتاب المراقبة والمعاقبة ميشيل فوكو
الجمعة نوفمبر 29, 2013 5:26 pm من طرف sghiri