بحـث
المواضيع الأخيرة
نوفمبر 2024
الإثنين | الثلاثاء | الأربعاء | الخميس | الجمعة | السبت | الأحد |
---|---|---|---|---|---|---|
1 | 2 | 3 | ||||
4 | 5 | 6 | 7 | 8 | 9 | 10 |
11 | 12 | 13 | 14 | 15 | 16 | 17 |
18 | 19 | 20 | 21 | 22 | 23 | 24 |
25 | 26 | 27 | 28 | 29 | 30 |
في متعة التوفيق بين الثقافة والمقاومة عند إدوارد سعيد
صفحة 1 من اصل 1
في متعة التوفيق بين الثقافة والمقاومة عند إدوارد سعيد
في متعة التوفيق بين الثقافة والمقاومة عند إدوارد سعيد
منتصر حمادة
الأحد 16 شتنبر 2012 - 21:37
ضيف هذا العرض البروفيسور والمفكر الفلسطيني الكبير، الراحل إدوارد سعيد، من خلال الترحال مع الاستجوابات الفكرية القيمة التي أجراها معه ديفيد بارساميان، تحت عنوان "إدوارد سعيد: الثقافة والمقاومة". (ترجم العمل علاء الدين أبو زينة، وراجعه محمد شاهين، وصدر عن دار الآداب البيروتية).
في تقديمه لهذا الكتاب يذكر لنا ديفيد بارساميان أن السؤال الأول الذي استقبله به إدوارد سعيد في مكتبه بجامعة كولومبيا كان: "هل لديك أسئلة وجيهة"؟ ثم يذكر لنا أن التوتر الذي كان يعتريه قبيل لقائه بمضيفه قد تُبدد واختفى فقط عندما ألقى بارساميان مقاطع من شعر محمود درويش، حينئذ فقط انطلق في الحديث الذي انتهى إلى إجابات تلقائية، من دون مراجعة للأسئلة أو إجراء تمرينات عليها.
وبَدَهِي أن يطرح سعيد هذا الاستفسار عن طبيعة الأسئلة التي من المفروض أن يتطرق إليها بارساميان، فالرجل كان "مطلوبا" و"ملاحقا" من قبل مختلف المنابر الإعلام العربية والغربية على حد سواء. وكثيرا ما اشتكى من كثرة الذين قدموا للتحدث معه دون إلمام بأي شيء له علاقة بالتزامه وانتمائه، وعلى أي حال، كما يشير إلى ذلك محمد شاهين في تقديمه للكتاب، فإن تميّز الراحل هو الذي جعل بارساميان يصف إدوارد سعيد بأنه "رجل نهضة" موحيا لنا بأن "إدوارد قد نهض بنا من عالم المجرد الضائع إلى عالم المحسوس، الذي تلقاه كل يوم مثلما نهض علماء أوروبا بمجتمعهم من ظلمات العصور الوسطى إلى النور".
شتاينر: سعيد نص مفتوح على العالم
تَمَكَّن إدوارد سعيد من اختراق حجب التقاليد الثقافية الغربية التي شيدت على مدى عقود طويلة في القرنين الماضيين، واستطاع أن يحول الأنظار إلى ما هو هام وحيوي وكوني، وقد قدم لنا مساهمة جليلة في مجال الثقافة شهِدَ العالم له بها، بدءا من محاضراته التي دعي لإلقائها في هيئة الإذاعة البريطانية، وهي سلسلة المحاضرات التي دعي لإلقائها مشاهير العالم من أمثل برتراند راسل، ونُشِرت فيما بعد تحت عنوان "صورة المثقف" والتي دعا فيها المثقف إلى أن يجهر بالحقيقة في وجه السلطان، وإلى أن يكون المثقف هاويا لا مهنيا، بمعنى أن يكون حرا، إلى كتابه "الثقافة والإمبريالية" الذي أصبح مرجعا مهما في ميدان الثقافة.
يُشبه بارساميان إدوارد سعيد بالملاح القديم الذي أتى إلى هذا العالم من دون هوية محددّة (وقد ذكر ذلك عن نفسه في غير مناسبة) وربما يكون هذا ما دعا البروفيسور جورج شتاينر إلى القول: "إن إدوارد سعيد نص مفتوح على العالم".
ولنبدأ بقراءة ضيف العرض لأم الأحداث عند العرب والمسلمين خلال القرن الأخير، ونتحدث طبعا عن القضية الفلسطينية، خاصة وأنه دفع ثمنا باهظا بسبب مكانه البارز في مشهد القضية الفلسطينية، حيث وصم بأنه "بروفيسور الإرهاب" ودعته قائمة الدفاع اليهودية بـ"النازي"، وتم إحراق مكتبه في جامعة كولومبيا، وتلقى هو وأفراد عائلته "تهديدات بالموت لا حصر لها" كما كتب إدوارد نفسه.
حَدث هذا في عز صراعه ـ منذ أوائل التسعينيات ـ مع مرض سرطان الغدد اللمفاوية، وكان يمضي الوقت بين المشافي وخارجها، إما على وشك البدء في دورة من العلاج أو بصدد الانتهاء منها. وتمكن خلال ذلك كله من الكتابة وإلقاء المحاضرات. إن خصومه يريدونه صامتا، ولكنه يقول في واحدة من المقابلات التي يضمها هذا الكتاب: "ذلك ما لن يحدث إلا إذا مت".
منذ استقالته من المجلس الوطني الفلسطيني عام 1991، أصبح سعيد واحدا من أبرز المناهضين علنا للراحل ياسر عرفات ولما يُسَمَّى بعملية السلام، وظل صوتا متفردا للمقاومة وسط كل اللغط الذي ساد قبل وبعد توقيع اتفاقية أوسلو في الحديقة الجنوبية للبيت الأبيض في شتنبر عام 1993، وقد أدرك على الفور معنى أوسلو وأسماها "فرساي الفلسطينية"، وهو الذي قال لمحمد شاهين مُعلِّقا على ذلك الحدث: "كان كلينتون أشبه بإمبراطور روماني يجلب ملكين تابعين من ملوك الإقطاعيات إلى بلاطه الإمبراطوري ويدفع بهما إلى التصافح".
ومن الأمثلة الغارقة في الدراماتيكية، والمتولدة عن "اتفاقات السلام"، المثال الخاص بمدينة الخليل: فهي مدينة عربية أساسا، ولم يكن فيها أي يهود قبل عام 1967، لكنهم استطاعوا أن ينشئوا مستعمرة بالقوة بقطنها من ثلاثمائة إلى أربعمائة يهودي داخل مدينة تضم حوالي مائة وعشرين إلى مائة وثلاثين ألفا من السكان العرب، هؤلاء المستوطنون اليهود الذين يشكلون ما لا تزيد نسبته عن 0,3% من عدد السكان يسيطرون الآن على 20% من مساحة المدينة بفضل عملية السلام، ويقع الجزء الذي يحتلونه بالضبط في منتصف المنطقة العربية وليس في الضواحي، وهكذا فإنهم يتجولون في المدينة محاطين بأفراد الجيش الذين يحمونهم ويزودونهم بالأسلحة.
يصف إدوارد سعيد إسرائيل بأنها الدولة الوحيدة في العالم التي تتلقى أكبر حجم من المساعدات العسكرية والاقتصادية الأمريكية التي أصبحت تقارب الآن نحو 130 بليون دولار بقيمة الدولار الحالية، كما أن كل شخص أمريكي ذي شأن، سواء كان مرشحا في مقاطعة صغيرة في شمال ولاية نيويورك أو منافسا على رئاسة الدولة، يترتب عليه أن يعلن عن نفسه/أو نفسها كواحد من المؤيدين لإسرائيل دون قيد أو شرط، وهذا ما نعاينه هذه الأيام مع العد العكسي للانتخابات الرئاسية الأمريكية.
ثم إن الإدارة الأمريكية تصطف في المعسكر الإسرائيلي إلى حد كبير، يضيف سعيد، وكل المعلومات المتوفرة عن المفاوضات التي جرت خلال السنوات السبع المنصرمة حول عملية السلام تقول بأن الولايات المتحدة قد تبنت في الحوارات كلها وجهة النظر الإسرائيلية وشكلت ظهيرا لإسرائيل، ويقف هنا كثيرا عند مجموعة من المؤشرات التي تزكي هذا التقييم، منها على سبيل المثال، أن كل المفوضين الذين انخرطوا في عملية السلام، بدءا من دينيس روس ومارتن إنديك وانتهاء بآهارون ميلر، إنما هم مستخدمون سابقون في اللوبي الصهيوني أو موالون له منذ أمد طويل.
ابن لادن مؤشر على أشياء ستأتي
ومادام الإرهاب موضوع الساعة بامتياز على الصعيد العالمي، يهمنا التوقف عند قراءة الراحل لهذا المأزق، وفيما يثبت سعة اطلاع المحاوِر (بارساميان)، نراه يستشهد بمقولة للراحل وصديق سعيد، إقبال أحمد (الذي مات في الباكستان عام 1999) وصَرَّح بها في عام 1998، ومفادها أن "أسامة بن لادن يشكل مؤشرا على أشياء ستأتي" وعندما طلب منه بارساميان أن يوضح ما ذهب إليه، قال إقبال: "لقد غرست الولايات المتحدة في الشرق الأوسط وجنوب آسيا بذورا سامة جدا هي الآن في طور النمو، بعضها نضج وبعضها لم يزل في طور النضوج، ونحن نحتاج إلى فحص الأسباب وراء غرسها وما الذي تمخضت عنه وكيف ينبغي أن تحصد. إن الصواريخ لن تحل المشكلة". وجاء رد سعيد متقاطعا مع ردود جماعة نعوم تشومسكي والراحل هوارد زن والقلة القليلة من المفكرين الأمريكيين الذين يحترمون أنفسهم، ففرضوا احترام الغير عليهم، وضمن هذا الغير، نجد بطبيعة الحال المتتبع العربي والمسلم.
فقد لاحظ أولا أن الإرهاب أصبح بمثابة ستار تمت صناعته منذ نهاية الحرب الباردة على أيدي صناع السياسة في واشنطن، شأنهم شأن مجموعة كاملة من الناس من أمثال صامويل هنتنغتون وستيفن إميرسون والذين يملكون حصتهم من ذلك الإصرار. وقد تم فبركة المسألة لإبقاء السكان خائفين، غير آمنين، ولتبرير ما ترغب الولايات المتحدة فعله على سطح الكوكب. وبهذا فإن أي تهديد لمصالحها، سواء تمثلت بالنفط أو بمصالحها الجيو ـ استراتيجية في أي مكان آخر، أصبح يوصم بالإرهاب، وهو بالضبط ما دأب عليه الإسرائيليون منذ أواسط السبعينيات فيما يخص المقاومة الفلسطينية لسياساتهم، ولعله من المثير للاهتمام، يضيف سعيد، أن كل تاريخ الإرهاب يجد جذوره في السياسات التي انتهجتها الإمبريالية، فقد استخدم الفرنسيون كلمة "الإرهاب" لوصف كل شيء قام به الجزائريون لمقاومة الاحتلال الفرنسي الذي بدأ عام 1730 ولم ينته حتى عام 1962 كما استخدم البريطانيون الفكرة ذاتها في كل من بورما وماليزيا، ليخلص إلى تعريف طريف ودقيق للإرهاب، بحيث يصبح "هو أي شيء يقف في وجه ما نرغب "نحن" في فعله".
وبما أن للولايات المتحدة ـ وهي القوة العالمية العظمى الوحيدة ـ مصالح أو هي تتظاهر بأن لها مصالح في كل مكان، فإن الإرهاب يصبح أداه ملائمة لإدامة هذه الهيمنة وتأبيدها. وينظر إلى الإرهاب الآن بوصفه مقاومة للعولمة، وثمة إصرار على إقامة هذه الصلة، مستشهدا هذه المرة بالذي صدر عن أروندهاتي روي (ناشطة هندية شهيرة)، والتي لاحظت بأن القوى الغربية تهرول نحو وصم حركات المقاومة التي تقوم بها الشعوب ضد الحرمان، ضد البطالة أو ضد هدر الموارد الطبيعية.. بالإرهاب.
نختم هذا العرض بالعروج على موضوع الهولوكوست، ومأزق اختزال الكيان العبري للمصطلح في الحالة النازية فقط، دون سواها. ومن المؤسف أن يكون الأتراك المسلمون متورطون أيضا في هذا المأزق، من خلال إصرار القيادات التركية، القديمة والجديدة، على إنكار الهولوكوست الذي اقترفته الحكومة التركية في حق الأرمن في بدايات القرن العشرين، والمُخجل، أن ينخرط الإسلاميون أيضا في سياسة الإنكار.
"الهولوكوست".. نوع من الدين الدنيوي
لقد أصاب إدوارد سعيد عندما عقد تشابها دقيقا بين السياسة التركية والسياسة الإسرائيلية في هذا الصدد. فلدى كليهما مصلحة في كبت المعرفة أو الإقرار بما اقترفته الحكومة التركية في حق الأرمن، ويورد مثالا مُركبا: في سنة 1983 كان هناك برنامج إذاعي إسرائيلي حكومي والذي كان يحاول فهم ما جرى للأمن. وقد مُنِع بث البرنامج فقط لأنهم استخدموا كلمات "هولوكوست" و"الإبادة العرقية" والتي تستخدم في إسرائيل لوصف ما حدث للإسرائيليين وحسب. وما فعله بيريز آنذاك إنما يصب في خط إدامة هذا النوع من السياسة، فعلى نحو يتسم بالغباء، وبدلا من محاولة توسيع دائرة الاعتراف والتفهم لما قد يحدث للشعوب سواء كانوا روانديين أو أرمن أو بوسنيين أو آخرين في أي مكان من العالم، حيث حدثت مثل هذه الأشياء الفظيعة وحيث لكل البشر مصلحة في أن لا تحدث مرة أخرى، فإنهم يريدون صباغة ذاكرة يجري تركيزها بشدة على مجموعات معينة، وليس على مجموعات أخرى عانت من تلك الكوارث التاريخية.
الحديث عن المتاجرة بالهولوكوست، يحيلنا على عمل رائع للمفكر الأمريكي نورمان فينكلشتين، والذي أصدر كتابا عنوانه "صناعة الهولوكوست" (والصادر هو الآخر عن نفس دار النشر البيروتية)، وقد نوه إدوارد سعيد بعمل فينكلشتين، مشيرا إلى أن هناك مجهودات مركزة في هذا الولايات المتحدة لتحويل الهولوكوست إلى نوع من الدين الدنيوي، ولجعله موضوعا للدراسة العلمية بمعنى خصوصيته باعتباره جزءا من التجربة اليهودية ومقصورا فقط على التجربة اليهودية، بينما في الحقيقة يجب النظر إليه باعتباره جزءا من ظاهرة أوسع بكثير، بما في ذلك الهولوكوست الذي جرى في فلسطين بحق السكان البدائيين الأصليين، وينبغي بالتالي أن يضم مفهوم الهولوكوست تلك الآلام والعذابات والتجارب الفظيعة التي تعرض لها الأمريكيون الأفارقة الذين جلبوا بالملايين ليعانوا من العبودية والرق. وهنا تبرز أهمية عمل فينكلشتين، حيث تعرف إلى صناعة الهولوكوست بشكل صائب على أن لها صلة وثيقة بتكريس القوة أكثر من كونها ذات صلة بتأكيد الحقيقة التاريخية.
منتصر حمادة
الأحد 16 شتنبر 2012 - 21:37
ضيف هذا العرض البروفيسور والمفكر الفلسطيني الكبير، الراحل إدوارد سعيد، من خلال الترحال مع الاستجوابات الفكرية القيمة التي أجراها معه ديفيد بارساميان، تحت عنوان "إدوارد سعيد: الثقافة والمقاومة". (ترجم العمل علاء الدين أبو زينة، وراجعه محمد شاهين، وصدر عن دار الآداب البيروتية).
في تقديمه لهذا الكتاب يذكر لنا ديفيد بارساميان أن السؤال الأول الذي استقبله به إدوارد سعيد في مكتبه بجامعة كولومبيا كان: "هل لديك أسئلة وجيهة"؟ ثم يذكر لنا أن التوتر الذي كان يعتريه قبيل لقائه بمضيفه قد تُبدد واختفى فقط عندما ألقى بارساميان مقاطع من شعر محمود درويش، حينئذ فقط انطلق في الحديث الذي انتهى إلى إجابات تلقائية، من دون مراجعة للأسئلة أو إجراء تمرينات عليها.
وبَدَهِي أن يطرح سعيد هذا الاستفسار عن طبيعة الأسئلة التي من المفروض أن يتطرق إليها بارساميان، فالرجل كان "مطلوبا" و"ملاحقا" من قبل مختلف المنابر الإعلام العربية والغربية على حد سواء. وكثيرا ما اشتكى من كثرة الذين قدموا للتحدث معه دون إلمام بأي شيء له علاقة بالتزامه وانتمائه، وعلى أي حال، كما يشير إلى ذلك محمد شاهين في تقديمه للكتاب، فإن تميّز الراحل هو الذي جعل بارساميان يصف إدوارد سعيد بأنه "رجل نهضة" موحيا لنا بأن "إدوارد قد نهض بنا من عالم المجرد الضائع إلى عالم المحسوس، الذي تلقاه كل يوم مثلما نهض علماء أوروبا بمجتمعهم من ظلمات العصور الوسطى إلى النور".
شتاينر: سعيد نص مفتوح على العالم
تَمَكَّن إدوارد سعيد من اختراق حجب التقاليد الثقافية الغربية التي شيدت على مدى عقود طويلة في القرنين الماضيين، واستطاع أن يحول الأنظار إلى ما هو هام وحيوي وكوني، وقد قدم لنا مساهمة جليلة في مجال الثقافة شهِدَ العالم له بها، بدءا من محاضراته التي دعي لإلقائها في هيئة الإذاعة البريطانية، وهي سلسلة المحاضرات التي دعي لإلقائها مشاهير العالم من أمثل برتراند راسل، ونُشِرت فيما بعد تحت عنوان "صورة المثقف" والتي دعا فيها المثقف إلى أن يجهر بالحقيقة في وجه السلطان، وإلى أن يكون المثقف هاويا لا مهنيا، بمعنى أن يكون حرا، إلى كتابه "الثقافة والإمبريالية" الذي أصبح مرجعا مهما في ميدان الثقافة.
يُشبه بارساميان إدوارد سعيد بالملاح القديم الذي أتى إلى هذا العالم من دون هوية محددّة (وقد ذكر ذلك عن نفسه في غير مناسبة) وربما يكون هذا ما دعا البروفيسور جورج شتاينر إلى القول: "إن إدوارد سعيد نص مفتوح على العالم".
ولنبدأ بقراءة ضيف العرض لأم الأحداث عند العرب والمسلمين خلال القرن الأخير، ونتحدث طبعا عن القضية الفلسطينية، خاصة وأنه دفع ثمنا باهظا بسبب مكانه البارز في مشهد القضية الفلسطينية، حيث وصم بأنه "بروفيسور الإرهاب" ودعته قائمة الدفاع اليهودية بـ"النازي"، وتم إحراق مكتبه في جامعة كولومبيا، وتلقى هو وأفراد عائلته "تهديدات بالموت لا حصر لها" كما كتب إدوارد نفسه.
حَدث هذا في عز صراعه ـ منذ أوائل التسعينيات ـ مع مرض سرطان الغدد اللمفاوية، وكان يمضي الوقت بين المشافي وخارجها، إما على وشك البدء في دورة من العلاج أو بصدد الانتهاء منها. وتمكن خلال ذلك كله من الكتابة وإلقاء المحاضرات. إن خصومه يريدونه صامتا، ولكنه يقول في واحدة من المقابلات التي يضمها هذا الكتاب: "ذلك ما لن يحدث إلا إذا مت".
منذ استقالته من المجلس الوطني الفلسطيني عام 1991، أصبح سعيد واحدا من أبرز المناهضين علنا للراحل ياسر عرفات ولما يُسَمَّى بعملية السلام، وظل صوتا متفردا للمقاومة وسط كل اللغط الذي ساد قبل وبعد توقيع اتفاقية أوسلو في الحديقة الجنوبية للبيت الأبيض في شتنبر عام 1993، وقد أدرك على الفور معنى أوسلو وأسماها "فرساي الفلسطينية"، وهو الذي قال لمحمد شاهين مُعلِّقا على ذلك الحدث: "كان كلينتون أشبه بإمبراطور روماني يجلب ملكين تابعين من ملوك الإقطاعيات إلى بلاطه الإمبراطوري ويدفع بهما إلى التصافح".
ومن الأمثلة الغارقة في الدراماتيكية، والمتولدة عن "اتفاقات السلام"، المثال الخاص بمدينة الخليل: فهي مدينة عربية أساسا، ولم يكن فيها أي يهود قبل عام 1967، لكنهم استطاعوا أن ينشئوا مستعمرة بالقوة بقطنها من ثلاثمائة إلى أربعمائة يهودي داخل مدينة تضم حوالي مائة وعشرين إلى مائة وثلاثين ألفا من السكان العرب، هؤلاء المستوطنون اليهود الذين يشكلون ما لا تزيد نسبته عن 0,3% من عدد السكان يسيطرون الآن على 20% من مساحة المدينة بفضل عملية السلام، ويقع الجزء الذي يحتلونه بالضبط في منتصف المنطقة العربية وليس في الضواحي، وهكذا فإنهم يتجولون في المدينة محاطين بأفراد الجيش الذين يحمونهم ويزودونهم بالأسلحة.
يصف إدوارد سعيد إسرائيل بأنها الدولة الوحيدة في العالم التي تتلقى أكبر حجم من المساعدات العسكرية والاقتصادية الأمريكية التي أصبحت تقارب الآن نحو 130 بليون دولار بقيمة الدولار الحالية، كما أن كل شخص أمريكي ذي شأن، سواء كان مرشحا في مقاطعة صغيرة في شمال ولاية نيويورك أو منافسا على رئاسة الدولة، يترتب عليه أن يعلن عن نفسه/أو نفسها كواحد من المؤيدين لإسرائيل دون قيد أو شرط، وهذا ما نعاينه هذه الأيام مع العد العكسي للانتخابات الرئاسية الأمريكية.
ثم إن الإدارة الأمريكية تصطف في المعسكر الإسرائيلي إلى حد كبير، يضيف سعيد، وكل المعلومات المتوفرة عن المفاوضات التي جرت خلال السنوات السبع المنصرمة حول عملية السلام تقول بأن الولايات المتحدة قد تبنت في الحوارات كلها وجهة النظر الإسرائيلية وشكلت ظهيرا لإسرائيل، ويقف هنا كثيرا عند مجموعة من المؤشرات التي تزكي هذا التقييم، منها على سبيل المثال، أن كل المفوضين الذين انخرطوا في عملية السلام، بدءا من دينيس روس ومارتن إنديك وانتهاء بآهارون ميلر، إنما هم مستخدمون سابقون في اللوبي الصهيوني أو موالون له منذ أمد طويل.
ابن لادن مؤشر على أشياء ستأتي
ومادام الإرهاب موضوع الساعة بامتياز على الصعيد العالمي، يهمنا التوقف عند قراءة الراحل لهذا المأزق، وفيما يثبت سعة اطلاع المحاوِر (بارساميان)، نراه يستشهد بمقولة للراحل وصديق سعيد، إقبال أحمد (الذي مات في الباكستان عام 1999) وصَرَّح بها في عام 1998، ومفادها أن "أسامة بن لادن يشكل مؤشرا على أشياء ستأتي" وعندما طلب منه بارساميان أن يوضح ما ذهب إليه، قال إقبال: "لقد غرست الولايات المتحدة في الشرق الأوسط وجنوب آسيا بذورا سامة جدا هي الآن في طور النمو، بعضها نضج وبعضها لم يزل في طور النضوج، ونحن نحتاج إلى فحص الأسباب وراء غرسها وما الذي تمخضت عنه وكيف ينبغي أن تحصد. إن الصواريخ لن تحل المشكلة". وجاء رد سعيد متقاطعا مع ردود جماعة نعوم تشومسكي والراحل هوارد زن والقلة القليلة من المفكرين الأمريكيين الذين يحترمون أنفسهم، ففرضوا احترام الغير عليهم، وضمن هذا الغير، نجد بطبيعة الحال المتتبع العربي والمسلم.
فقد لاحظ أولا أن الإرهاب أصبح بمثابة ستار تمت صناعته منذ نهاية الحرب الباردة على أيدي صناع السياسة في واشنطن، شأنهم شأن مجموعة كاملة من الناس من أمثال صامويل هنتنغتون وستيفن إميرسون والذين يملكون حصتهم من ذلك الإصرار. وقد تم فبركة المسألة لإبقاء السكان خائفين، غير آمنين، ولتبرير ما ترغب الولايات المتحدة فعله على سطح الكوكب. وبهذا فإن أي تهديد لمصالحها، سواء تمثلت بالنفط أو بمصالحها الجيو ـ استراتيجية في أي مكان آخر، أصبح يوصم بالإرهاب، وهو بالضبط ما دأب عليه الإسرائيليون منذ أواسط السبعينيات فيما يخص المقاومة الفلسطينية لسياساتهم، ولعله من المثير للاهتمام، يضيف سعيد، أن كل تاريخ الإرهاب يجد جذوره في السياسات التي انتهجتها الإمبريالية، فقد استخدم الفرنسيون كلمة "الإرهاب" لوصف كل شيء قام به الجزائريون لمقاومة الاحتلال الفرنسي الذي بدأ عام 1730 ولم ينته حتى عام 1962 كما استخدم البريطانيون الفكرة ذاتها في كل من بورما وماليزيا، ليخلص إلى تعريف طريف ودقيق للإرهاب، بحيث يصبح "هو أي شيء يقف في وجه ما نرغب "نحن" في فعله".
وبما أن للولايات المتحدة ـ وهي القوة العالمية العظمى الوحيدة ـ مصالح أو هي تتظاهر بأن لها مصالح في كل مكان، فإن الإرهاب يصبح أداه ملائمة لإدامة هذه الهيمنة وتأبيدها. وينظر إلى الإرهاب الآن بوصفه مقاومة للعولمة، وثمة إصرار على إقامة هذه الصلة، مستشهدا هذه المرة بالذي صدر عن أروندهاتي روي (ناشطة هندية شهيرة)، والتي لاحظت بأن القوى الغربية تهرول نحو وصم حركات المقاومة التي تقوم بها الشعوب ضد الحرمان، ضد البطالة أو ضد هدر الموارد الطبيعية.. بالإرهاب.
نختم هذا العرض بالعروج على موضوع الهولوكوست، ومأزق اختزال الكيان العبري للمصطلح في الحالة النازية فقط، دون سواها. ومن المؤسف أن يكون الأتراك المسلمون متورطون أيضا في هذا المأزق، من خلال إصرار القيادات التركية، القديمة والجديدة، على إنكار الهولوكوست الذي اقترفته الحكومة التركية في حق الأرمن في بدايات القرن العشرين، والمُخجل، أن ينخرط الإسلاميون أيضا في سياسة الإنكار.
"الهولوكوست".. نوع من الدين الدنيوي
لقد أصاب إدوارد سعيد عندما عقد تشابها دقيقا بين السياسة التركية والسياسة الإسرائيلية في هذا الصدد. فلدى كليهما مصلحة في كبت المعرفة أو الإقرار بما اقترفته الحكومة التركية في حق الأرمن، ويورد مثالا مُركبا: في سنة 1983 كان هناك برنامج إذاعي إسرائيلي حكومي والذي كان يحاول فهم ما جرى للأمن. وقد مُنِع بث البرنامج فقط لأنهم استخدموا كلمات "هولوكوست" و"الإبادة العرقية" والتي تستخدم في إسرائيل لوصف ما حدث للإسرائيليين وحسب. وما فعله بيريز آنذاك إنما يصب في خط إدامة هذا النوع من السياسة، فعلى نحو يتسم بالغباء، وبدلا من محاولة توسيع دائرة الاعتراف والتفهم لما قد يحدث للشعوب سواء كانوا روانديين أو أرمن أو بوسنيين أو آخرين في أي مكان من العالم، حيث حدثت مثل هذه الأشياء الفظيعة وحيث لكل البشر مصلحة في أن لا تحدث مرة أخرى، فإنهم يريدون صباغة ذاكرة يجري تركيزها بشدة على مجموعات معينة، وليس على مجموعات أخرى عانت من تلك الكوارث التاريخية.
الحديث عن المتاجرة بالهولوكوست، يحيلنا على عمل رائع للمفكر الأمريكي نورمان فينكلشتين، والذي أصدر كتابا عنوانه "صناعة الهولوكوست" (والصادر هو الآخر عن نفس دار النشر البيروتية)، وقد نوه إدوارد سعيد بعمل فينكلشتين، مشيرا إلى أن هناك مجهودات مركزة في هذا الولايات المتحدة لتحويل الهولوكوست إلى نوع من الدين الدنيوي، ولجعله موضوعا للدراسة العلمية بمعنى خصوصيته باعتباره جزءا من التجربة اليهودية ومقصورا فقط على التجربة اليهودية، بينما في الحقيقة يجب النظر إليه باعتباره جزءا من ظاهرة أوسع بكثير، بما في ذلك الهولوكوست الذي جرى في فلسطين بحق السكان البدائيين الأصليين، وينبغي بالتالي أن يضم مفهوم الهولوكوست تلك الآلام والعذابات والتجارب الفظيعة التي تعرض لها الأمريكيون الأفارقة الذين جلبوا بالملايين ليعانوا من العبودية والرق. وهنا تبرز أهمية عمل فينكلشتين، حيث تعرف إلى صناعة الهولوكوست بشكل صائب على أن لها صلة وثيقة بتكريس القوة أكثر من كونها ذات صلة بتأكيد الحقيقة التاريخية.
مواضيع مماثلة
» إدوارد سعيد بين النقد الديني والنقد العَلماني 1/2 *إسماعيل العثماني
» ما نصيب الهوية و الثقافة من الربيع الديمقراطي؟:
» سؤال الثقافة والتغيير في مجتمع منقسم حول ذاته
» المكون الديني والتغيير الثقافي د.سعيد شبار
» إشكالية الذاتية والموضوعية في ثقافــتـنا المغـربية سعيد أبجطيط
» ما نصيب الهوية و الثقافة من الربيع الديمقراطي؟:
» سؤال الثقافة والتغيير في مجتمع منقسم حول ذاته
» المكون الديني والتغيير الثقافي د.سعيد شبار
» إشكالية الذاتية والموضوعية في ثقافــتـنا المغـربية سعيد أبجطيط
صفحة 1 من اصل 1
صلاحيات هذا المنتدى:
لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى
الإثنين أغسطس 28, 2023 5:54 am من طرف sghiri
» نظرية النافذة المكسورة
الإثنين أغسطس 28, 2023 5:52 am من طرف sghiri
» تقرير عن ندوة المثقف و المجتمع بمكناس
الأربعاء نوفمبر 12, 2014 2:25 pm من طرف sumaya bakria
» الحكامة الأمنية
الثلاثاء أغسطس 12, 2014 5:02 pm من طرف sghiri
» ما السوسيولوجيا القروية؟
الإثنين فبراير 10, 2014 6:52 pm من طرف زائر
» أسئلة اختبارات علم الإجتماع .... من الفصل الأول إلى الرابع
الإثنين يناير 13, 2014 12:46 pm من طرف sghiri
» عرض في مادة انتروبولوجيا العالم الاسلامي 2009
الأربعاء ديسمبر 04, 2013 12:28 pm من طرف rachidov20
» موقع لتحميل الكتب في مجالات مختلفة
الثلاثاء ديسمبر 03, 2013 6:35 pm من طرف sghiri
» تحميل كتاب المراقبة والمعاقبة ميشيل فوكو
الجمعة نوفمبر 29, 2013 5:26 pm من طرف sghiri