بحـث
المواضيع الأخيرة
نوفمبر 2024
الإثنين | الثلاثاء | الأربعاء | الخميس | الجمعة | السبت | الأحد |
---|---|---|---|---|---|---|
1 | 2 | 3 | ||||
4 | 5 | 6 | 7 | 8 | 9 | 10 |
11 | 12 | 13 | 14 | 15 | 16 | 17 |
18 | 19 | 20 | 21 | 22 | 23 | 24 |
25 | 26 | 27 | 28 | 29 | 30 |
التعليمية والابستيمولوجيا (نحو إطار توجيهي في ميدان علم الاجتماع)
صفحة 1 من اصل 1
التعليمية والابستيمولوجيا (نحو إطار توجيهي في ميدان علم الاجتماع)
العلمية"Science ، ومن المقطع Logos والذي يعني باللغة اليونانية "نظرية" أو "دراسة نقدية" Etude.
ومن هنا فإن هذا اللفظ المركب يعني: >> الدراسة النقدية للعلم أو نظرية المعرفة العلمية <<، وبمعنى آخر فإن هذا الحقل المعرفي يختص بدراسة منتجات المعرفة العلمية ومبادئها وأصولها، من منظور نقدي، وهذا ما أشار إلية "لالاند" A. Lalande في معجمه الفلسفي حين عرفها بأنها: >> ذلك المبحث الذي يعالج معالجة نقدية مبادئ العلوم المختلفة وفروعها ونتائجها بهدف التوصل إلى إرساء أساسها المنطقي، كما أنه ينشد تحديد قيمة هذه العلوم ودرجة موضوعيتها ([2]).
فهي تتخذ العلم موضوعا لها، لتتناوله بالبحث والاستقصاء للوقوف على مبادئه وقضاياه النظرية الأولية وقيمه ومعاييره، وعلى مقارباته للواقع، وهي بهذا تتناول أصوله التاريخية، بتتبع مراحل وعوامل تقدمه، وتحاول الكشف عن أسباب وفترات تقهقره.
وهي تسعى ضمن هذا التناول التاريخي التتابعي Diachronique للمعرفة العلمية ([3]) لتجاوز التتبع السردي إلى الانتقال إلى الفحص النقدي الثاقب لتشكل المفاهيم المعرفة العلمية وتطور مدلولاتها وقضاياها النظرية.
وبشكل عام، يمكن القول (مع بياجيه) بأن دراسة الحياة الداخلية لأي علم تتم في مخبر الإبستيمولوجية ضمن منهج تاريخي ووفق مقاربات نقدية ([4]).
ونشير ونحن في معرض الحديث عن الابستيمولوجيا، إلى أنه من الصعب تحديد مفهوم هذه الأخيرة بدقة من دون تحديد خطوط التداخل والتباعد التي تحدّها مع بعض فروع العلم والفلسفة.
ويرجع السبب في ذلك كما يقول "روبير بلانشيه" (Robert Blanche) إلى أن:>> الحدود التي سنقيمها بينها وبين غيرها من العلوم أو المعارف الأخرى ستبقى حدودا غير ثابتة، لأن كثيرا من المشكلات الإبستيمولوجية ستطلّ في الأغلب على ميادين نكون قد استعدناها في تحديدنا لميدان الإبستيمولوجيا..<<([5]).
وبما أن استعرض هذه الخطوط فيما بين الإبستيمولوجية وغيرها المعارف الإنسانية لا يدخل في صلب هذه الورقة، فإننا سنكتفي بالإشارة إلى بعضها حسب الحاجة، في معرض الحديث عن العلاقة بين الابستيمولوجيا والتعليمية.
ثانيا- التعليمية:
تهدف الدراسات في ميدان التعليمية إلى تناول عملية اكتساب المعرفة، كما أنها تسمح بتفسير أسباب عدم النجاح في اكتساب مضمون معرفي ما، فضلا عن كونها تسعى إلى دراسة مراحل اكتساب طلاب العلم للمعلومات وطرق توظيفها في حياتهم العلمية والعملية، وأساليب تعاملهم مع المواقف أو المشكلات المختلفة التي تواجههم.
وتعتبر التعليمية حقلا بحثيا هاما، ينطوي على نمط محدد لتحليل ظواهر التعليم، أكثر من كونها علما مستقلا بذاته.
ولتوضيح كيفية الاستفادة من هذه الدراسات في مجال بحثنا، يجب التمييز بين:
-حقل (champ) الدراسة في مجال"البحث التعليمي" (La recherché didactique)
- وأداة ( Outil)الدراسة في ذات المجال.
ولتوضيح ذلك، يمكن القول، بأن البحث التعليمي قد يتخذ أي تخصص علمي (مثل علم الاجتماع علم النفس أو الرياضيات..) كحقل للدراسة، هذا في الحين الذي يستعمل فيه بقية التخصصات العلمية والمعرفية الأخرى (مثل الابستيمولوجيا و الإحصاء و علم النفس..) كأدوات للدراسة.
فعند دراسة سيكولوجية تعلم الرياضيات مثلا يصبح علم النفس أداة للبحث التعليمي، بينما تصبح الرياضيات موضوعا أو حقلا لهذا البحث..
وبالنسبة لهذه الدراسة التي نحن بصددها، فهي تتخذ الابستيمولوجيا كأداة للبحث التعليمي في حقل محدد وهو: علم الاجتماع، كنموذج للعلوم الاجتماعية.
ثالثا-التعليمية والابستيمولوجيا (نحو إطار توجيهي في ميدان علم الاجتماع):
تشكل التعليمية نقطة التقاء العديد من المعارف العلمية والفلسفية، التي تهتم بدراسة الجهد المنظم الواعي الذي يقوم به "الأستاذ" من أجل تكييف مضامين المعرفة العلمية، وفق مقتضيات ومحكّمات بيداغوجية وتربوية.
وتقترح الدراسة، على سبيل المثال لا الحصر، إمكان مساهمة الابستيمولوجيا كأداة للبحث التعليمي في مجال علم الاجتماع من خلال الجوانب الثلاث التالية:
ا- الابستيمولوجيا وتطور دلالات المفاهيم:
يحدث ضمن هذا الجانب من الاستقصاء الخاص بمساهمة المقاربة الإبستيمولوجية في العملية التعليمية، (أي في تبليغ المحتوى المعرفي) تقاطع كبير بين الابستيمولوجيا وتاريخ العلوم ( Histoire des sciences).
وفي هذا الصدد، يمكن للمقاربة التاريخية أن تقدم عونا بالغ الأهمية، بفضل إعطائها للمتلقي (أو المتعلم) (L’apprenant) خلفية واسعة حول صيرورة تشكل وتطور دلالات المفاهيم؛ وعن أبعاد تبلور مختلف مضامين المعرفة العلمية، وعلاوة على ذلك، فهي تلقي الضوء على السياق العام لمختلف الإضافات العلمية، وكذا الظروف التي رصدت فيها هذه الإضافات؛ وقُيِّدت في سجل العلوم.
ويجدر بنا أن نذكر بأن التقاطع الحاصل بين مؤرخ العلوم والباحث في المجال الابستيمولوجي لا يعني بأيِّ حال من الأحوال حصول تداخل كلي بينهما، فالباحث في الابستيمولوجيا ينطلق من تصور خاص لمسيرة المعرفة العلمية ([6]) فهـو يطرح القضيـة من منطلـق " العقبـات الإبستيمولوجيـة" (Les obstacles épistémologique) .
فكما يقول غاستـون باشلار (Gaston Bachelard) << فإننا عندما نبحث عن الشروط النفسانية لتقدم العلوم، سرعان ما نتوصل إلى هذا الاقتناع، بأنه ينبغي طرح مسألة المعرفة العلمية بعبارات العقبات ([7])<<. ويكْمن الفرق بين تاريخ العلم والابستيمولوجيا حسب باشلار في أن: >> مؤرخ العلوم مُطالب بدراسة الأفكار بوصفها "وقائع" ( Des faits) ، أما الابستيمولوجيا فهي ملزمة بدراسة الوقائع بوصفها أفكارا ( Des idées)، ثم تدمجها في نظام تفكير معين. فالواقعة المفسرة خطأ في أي عصر تبقى مجرد واقعة بالنسبة للمؤرخ. هذا في حين تُمسي في عـين الابستيمولوجيا عبارة عن عقبات، أي أنها تشكل فكـرا مضادا (Une contre-pensée) ([8])>>.
وعند استعراض قضايا ومضامين علم الاجتماع، يتضح بأنه ليس فقط أبواب ومسائل هذا العلم قد كانت موضوعا للتدافع بين التفكير العلمي وبين التفكير ما قبل العلمي، بل أن موضوع هذا العلم ذاته قد كان عرضة لتنقيحات مستمرة، عبرت بوضوح عن حجم الإشكال المعرفي الذي يكتنف علم دراسة المجتمع، كما كشف في كثير من الحيان عن أزمة مشروعية قيام هذا العلم ذاته([9]).
ولعل ذلك ما يفسر لماذا تعتبر المشروعيــة ( Légitimité ) هي أول إشكال يعترض أستاذ علم الاجتماع، عند شروعـه في التواصـل مع المتعلميـن (Les apprenants) ، بل يلاحظ أن هذا الأمر، غالبا ما يستمر مع أساتذة التخصص طيلة مسيرة تدريس هذا العلم، حيث نجدهم، يبدؤون من النقطة ذاتها التي شهدت انطلاق مسيرة تأسيس مشروعية هذا العلم، أي من اللحظة التي بدأ فيها يحاول شق طريقه الخاص بين دروب الفلسفة والتاريخ وعلم النفس، وطفق فيها في حل مشاكله " الحدودية " مع الفروع العلمية والمعرفية الأخرى، والتدليل على استقلالية "الواقعة الاجتماعية".
ويستمر الأمر عبر تخصصات علم الاجتماع المختلفة، ففي علم الاجتماع الحضري، على سبيل المثال، تعتبر قضية بناء النظرية من أهم معضلات هذا الأخير، الذي بحكم دراسته لمجتمع المدينة، يجد نفسه في حلبة التدافع الإبستيمولوجي على الحدود، جنبا إلى جنب مع الجغرافية والعمارة والأنثروبولوجية وعلم الديموغرفيا..
ومن الناحية العملية، يمكن الاستشهاد بالجهود التي قام بها دوركايم في " قواعد المنهج في علم الاجتماع" من أجل تخليص أرضية هذا العلم من كل أشكال التداخل مع مواضيع العلوم الأخرى، وتحديد "خصائص الواقعة الاجتماعية" باعتبارها نتاج الحياة الاجتماعية وبوصفها مستقلة عن ذوات الأفراد، وبوصفها << تنحصر في ضروب السلوك والتفكير التي يمكن تمييزها عن غيرها بالعلامة الخاصة الآتية، وهي أنها تستطيع التأثير في شعور الأفراد تأثيرا قهريا([10])>>
ويقول في موضع آخر: >>إن الظاهـرة الاجتماعيـة هي: كل ضرب من السلوك. ثابتا كان أم غير ثابت، يمكن أن يباشر نوعا من القهر الخارجي على الأفراد، أو هي كل سلوك يعم في المجتمع بأسره، وكان ذا وجود خاص مستقل عن الصور التي يتشكل بها في الحالات الفردية ([11])<<.
يلاحظ من خلال هذه النصوص التأسيسية لعلم الاجتماع المعاصر أن التفسير السيكولوجي كان أشد عقبة إبستيمولوجية اعترضت استقلالية هذا العلم، وهي تعتبر في أي وقت أهم العقبات التي تثير الالتباس في أذهان طلاب العلم، ولذلك فمن المفيد الاستفادة من التجربة الدوركايمية التي استطاعت التمييز بين الظاهرة الاجتماعية والظاهرة النفسية، بين الوعي كحقيقة نفسية، وبين الوعي الجمعي كحقيقة اجتماعية.
وكما يقول أحد المنشغلين بعلم الاجتماع في الجزائر، مبينا إسهام دوركايم في تأسيس علم الاجتماع :>> إن رسالة عالم الاجتماع هي تفسير كيف أن "البنيات الاجتماعية" (Structures Sociales) توجه سلوكات الأفراد. لماذا معدلات الانتحار، المركبة من أفعال فردية، هي متباينة في المجتمعات التقليدية والمجتمعات الحديثة؟ لماذا تتزايد مع التصنيع؟ لماذا بعض المؤسسات تثير الاحترام أو الرهبة؟ لماذا بعض التصرفات تستوحي التقدير وبعضها الآخر يثير الاستهجان؟ ولماذا، بصورة عامة، المشاعر الأخلاقية التي تثيرها أصناف من السلوكات تختلف حسب المجتمعات؟<< ([12]).
ومن النصائح البالغة الأهمية لدوركايم في هذا الصدد قوله: << لا يجوز لعالم الاجتماع، وبحال ما، أن يستعير من علم النفس بعض قضاياه لكي يطبقها دون تحوير، على الظواهر الاجتماعية، بل لابد له من دراسة التفكير الاجتماعي برمته، أي شكلا وموضوعا، في ذاته و لذاته ولابد عليه أن يشعر خلال ذلك بما ينطوي عليه هذا التفكير من صفات خاصة به.([13])>>
غير أن الاستفادة من هذه النصائح لا يجب أن تجرنا إلى المبالغة في ذلك، لأن التمييز الذي قدمه دوركايم قد أدى- كما يقول غي روشي Guy Rocher- إلى ظهور مسافة أكبر مما نقبلها اليوم بين النفسي والاجتماعي([14]).
أما فيما يخص، الإشكال الناجم عن تحديد نطاق العلم والبحث السوسيولوجي لشتى تخصصاته، فيفضل تتبع تطور دلالات مفاهيمها وتبلور المدراس المختلفة، بقصد استخلاص الطرق الناجعة لتفهيم المتلقين أسباب وأبعاد هذا الإشكال معرفيا ونظريا ومنهجيا، وكذا التحذير العملي من الانزلاقات المعرفية، زيادة على إشراك المتلقي في الجهد الرامي لتأسيس بناء نظري متكامل فيها.
2- الإبستيمولوجيا والنقل التعليمي:
إذا كانت الابستيمولوجيا تساهم في التمييز بين الإنتاج العلمي والإنتاج الأيديولوجي([15])، وتكشف >> ضمن أية شروط تصبح المعرفة العلمية مُمْكنة؛ في ميدان الحياة الاجتماعية؟ وما هي القواعد التي تعنى بإنشاء المعطيات، والتي ترتبط بالموضوعية وبالمسافة بين المعاين والمعايِن L’observé، والتي تتعلق بنقد المخارج والأيديولوجيات؟ وما هي مقاييس البراهين([16])<< فإنها بالمقابل، وفي حقل التعليم، تمنح القائم بالتعليم يقظة تسمح له باستعراض المسافة التي تفصل المعرفة العالمة(Savoir- savant) عن المعرفة الجاري تعليمها(Savoir- Enseigné).
فكشف النقاب عن مختلف المحدّدات والمُحكِّمات البنائية والفكرية التي أثرت على تطور المعرفة العلمية، قد يساعدنا عند تحويل المعرفة، وإدخالها في دائرة التعليم، على الأخذ بعين الاعتبار المسافة التي تفصل نظام التعليم ونظام تطور المعرفة.
فالأمر هنا، يتعلق بالأخذ بعين الاعتبار تأثير مختلف "الشركاء الصامتين" في العملية التعليمية، الذين واجههم مبدع المعرفة، ويواجههم ناقلها ومبلِّغها طوال مراحل قيامه بالتعليم.
فصناع القرار التعليمي يشكلون جزءا أساسيا في النظام التعليمي، فكما يقول " بيير بورديو" (Pierre Bourdieu): >>إن أي نشاط تربوي هو موضوعا من العنف الرمزي، وذلك بوصفه فرضا من قبل جهة متعسفة لتعسف ثقافي معين([17])<< هذا بالإضافة إلى الشركاء الذين يستقدمهم الطالب من بيئته الفيزيقية والرمزية، والذين يشكلون عائقا قد لا يسمح بتحقيق بعض الأهداف البيداغوجية، خاصة ما يتعلق منها بتطوير اتجاهات التعلم لديه، أو تحريره من كل ما من شأنـه أن يحد من بلورة تصور علمي لديه متحررا من الرواسب المعرفية ما قبل علمية.
ولحل هذا الإشكال بذلت جهود معتبرة على صعيد تأسيس المعرفة العلمية، كما بذلت جهود أخرى – ولازالت على الصعيد البيداغوجي- فمن الناحية الأولى يمكن التذكير بالمجهود الذي قام به دوركايم، من أجل تحديد الطريقة الناجعة عند دراسة الظواهر الاجتماعية، قصد تأسيس العلم السوسيولوجي، حيث وفّر شرطين ضروريين، أصبح إسهامه يُختصر فيهما، بوصفهما صيغتين بارزتين كما يوضح "ريمون آرون" ( Raymond Aron) وهما : >> ضرورة اعتبار الوقائع الاجتماعية كأشياء Comme des choses، وأن من خصائص الظاهرة الاجتماعية أنها تمارس قهرا على الأفراد.([18])<<
فحسب هذه الإشارة فقد أكد دوركايم على شيئية الواقعة الاجتماعية لحل مشكلة التداخل بين الذات العارفة وموضوع المعرفة، وكان الهدف من ذلك إحداث ثورة في مجال إدراك الظاهرة الاجتماعية. وبرأينا، يجب إحداث ثورة مماثلة في مجال التعليم لدى الطالب، حتى يتسنى إحداث قطيعة مع وهم الانطباعات الأولية، وإيحاءات الخلفيات الأيديولوجية، وكل ما من شأنه أن يحجب التشخيص الموضوعي السليم للواقعة الاجتماعية.
3- العوائق الإبستيمولوجية والعوائق التعليمية :
يمكن أن تقدم الابستيمولوجيا دعما كبيرا عند محاولة تجاوز بعض العقبات التي تحول دون تحقيق بعض الأهداف البيداغوجية. فمن خلال تتبع تطور المعرفة العلمية، يمكن أن نعقد مقارنة بين المراحل السابقة على المعرفة العلمية (رصد مختلف العوائق الإبستيمولوجية) التي شكلت عائقا أمام تطور المعرفة، وبين المراحل السابقة على التعلم لدى الطالب والتي تحدّ من فاعلية تعلمه، وهنا يمكن أن تدعم البحوث الميدانية هذا المسعى.
على أية حال، استطاع باشلار من خلال مفهوم العقبة الإبستيمولوجية أن يطرح أسلوبا جديدا لدراسة تطور العلوم، كشف من خلاله عن مختلف الأسباب التي تعيق تطور المعرفة العلمية، وهو لا يقصد بالعقبة، العقبات الخارجية مثل تركيب الظواهر وزوالها، أو ضعف الحواس والعقل البشري، فهو يعني بها العقبات التي ترتبط بعملية الحصول على المعرفة أو حسب تعبيره التي تكمن في << صميم فعل المعرفة بالذات ([19])>> ويسرد باشلار جملة من العقبات التي أدت إلى ركود المعرفة العلمية منها:
1) الملاحظات الأولى، التي لا تقدم صورة صحيحة للظواهر، ولا حتى الظواهر المنتظرة بدقة، فقد يحل الإعجاب محل المعرفة، وتوضع الصور موضِع الأفكار، أي تتدخل رغباتنا اللاشعورية وأهواؤنا الصماء ([20]).
2) المعرفة العامة بوصفها عقبة أمام المعرفة العلمية، وفي هذا يقول باشلار:>>لم يوقف شيء عجلات تقدم المعرفة العلمية سوى عقيدة العام الباطلة التي سادت منذ أرسطو حتى باكون([21])<< فالتعميمات البسيطة ذات أثر خطير يتمثل قي استمرار وقف الاختبار، وعدم الاهتمام بالتجربة.
3) العقبة اللفظية: ويعطي باشلار مثالا بلفظة الاسفنجة، التي استخدمت كأداة تفسيرية لكثير من الظواهر، حيث فسّر بها الهواء عند إنضغاطه الشديد بفعل الأثقال باعتباره إسفنجيا، وفسر أحدهم الثلج باعتباره إسفنجة ماء مكثف ومجلد في غياب النار([22])، حتى أن ديكارت على رجاحة عقله اعتبر >>أن التشكيك بوضوح وتمايز الصورة التي تقدمها لنا الاسفنجة يعني التدقيق في التفسيرات دون وجه حق ([23])<< وهكذا استعملت الاسفنجة بوصفها مقولة تفسيرية كافية في حد ذاتها، وبإمكانها أن تخفف من مشقة البحث والتجريب....( الخ من العقبات..)
هذا وقد أطلق غاستون باشلار على حقبة الاكتشافات العلمية التي حدثت في مجرى تاريخ العلوم، والتي كانت تعبيرا عن انتصارات المعرفة العلمية على المعارف السابقة على العلم، وعلى كافة العراقيل التي تحجز تطور العلم، والتي كانت، أيضا، تعبيرا عن سلسلة الانتصارات التي حققها العقل البشري أمام الأخطاء والجهل والحواجز، قلت أطلق باشلار على المرحلة التي ينتصر فيها العلم والعقل، ويحدث فيها تجاوز المرحلة السابقة للعلمية، مفهوم "القطيعة الإبستيمولوجية"(Obstacle épistémologique)، وهو المفهوم الذي يشير إلى >>اللحظة النظرية التي تنفصل فيها المعرفة العلمية عن ماضيها الأيديولوجي([24])<<
ويلاحظ عند استعراض تاريخ العلوم الاجتماعية، أن هذه الأخيرة شهدت عددا معتبرا من العوائق منها: تأثير النزعة الإصلاحية، وتغليب الذاتية على الموضوعية، والركون إلى التفسيرات الأيديولوجية المحضة، لدرجة تصبح معها الأيديولوجية وسيطا معرفيا بين الذات العارفة وموضوع المعرفة.
إضافة إلى الالتباس بين مختلف التخصصات الاجتماعية، لكون الواقعة الاجتماعية، في حقيقة الأمر، مُحصلة للحياة الاجتماعية، بكل أبعادها السياسية والاقتصادية والدينية والأخلاقية.
ولعل أخطر العوائق التي شهدها هذا العلم، وقوع العالم السوسيولوجي ضحية -ما أطلق عليه بيير بورديو- "علم الاجتماع العفوي" (Sociologie Spontanée) الذي يقنع بالتعليل العفوي، الذي يستطيع كل فرد منا أن يعطيه لممارسته ولتلك التي يلاحظها لدى الآخرين([25]). ومن هنا يتحتم على الباحث والأستاذ إحداث قطيعة مع علم الاجتماع العفوي، بحيث يتجاوز "الإدراك العام" للواقع (Perception commune) أو الفهم التلقائي حسب تعبير ريمون آرون ([26]). وهو الإدراك أو الفهم الذي يحد من علمية تشخيص الظاهرة الاجتماعية وتفسيرها.
وإجمالا، يمكن اختزال هذا التأرجح بين الصور غير دقيقة المتعددة لإدراك الواقع الاجتماعي ومن ثم تفسيره فـي ثلاث نماذج وهي:
أولا – الإدراك المبسط للواقع:
يعتبر الاتجاه المبسط الشكل التاريخي الأول لإدراك المجتمع، ويمكن الإشارة إلى نوعين من أنواع الإدراك ضمن هذا الاتجاه:
1-النوع الأول: ويتمثل في النموذج العضوي وهو يتناول المجتمعات أو الكليات الاجتماعية على اعتبار أنها تتوفر على سمات مشابهة للوقائع العضوية أو الكائنات الحية) [27](. فهذا التصور يقوم على أساس " المماثلة العضوية " والتي هي نوع من المقابلة بين المجتمع والكائن الحي. حتى أن بعض أتباع سبنسر Spencer كما يقول المرحوم العلامة عاطف غيث:>> ذهبوا إلى حد البحث عن مكان القلب والعقل والدورة الدموية في الكائن الاجتماعي )[28] << (.
2- أما النوع الثاني، فيتمثل في " النموذج الميكانيكي" وهو النموذج الذي يستخدم المقابلة بين المجتمع والآلة. وقد ازدهر هذا النوع الأخير من إدراك الواقع بتأثير من العلوم الطبيعية والميكانيكا والرياضيات. فالمجتمع من وجهة النظر ميكانيكية عبارة عن نسق فلكي Système Astronomique تتكون عناصره من أفراد تربطهم ببعضهم علاقات تجاذب أو تنافر، وهذه العلاقات قابلة للقياس، وهي محصلة طبيعية لتفاعل ذي خصائص طبيعية ويمكن التعبير عنه بواسطة أسلوب الميكانيكا الاجتماعية )[29](.
ثانيا: الإدراك المعقّد للواقع الاجتماعي:
وهو الإدراك المُغرق في التجريد والابتعاد عن الواقع. ويمكن أن نستدل عليه من خلال الاتجاه الصوري الذي ساد في علم الاجتماع الألماني ( زيمل G. Simmel،فون فيزي Von Weise) والذين يتناولون الحياة الاجتماعية من خلال تناول الصور أو الأشكال Formes التي تتبدى فيها العلاقات الاجتماعية، فهم مثلا لا يدرسون التنافس من حيث مضمونه الاقتصادي أو السياسي، بل من حيث كونه صورة مجردة تعبر عن شكل معين من أشكال العلاقات الاجتماعية([30]).
ويمكن إدراج أعمال عالم الاجتماع الأمريكي "تالكوت بارسونز"Talcot Parsons ضمن هذا الاتجاه ، وقد صنفت نظرياته ضمـن "النظريات المتضخمة" ، حيث اتسمت نظريته عن " النسق الاجتماعي " بكونها كما يقول رايت ميلز Wright Mills: >> قابلة لأن تكون نظرية شكلية وجدباء يصبح فيها تفتيت المفاهيم، ثم إعادة ترتيبها اللانهائي هو الهدف المركزي.. ([31])<< .
ثالثا: الإدراك المجزأ للواقع:
وهو الإدراك المجزأ Atomisée للواقع، والذي قد يطلق عليه "الأمبريقية المغالية المجتزأة" Empirism Abstracted وهو الاتجاه، الذي لا يقدم صورة متكاملة عن الحياة الاجتماعية، لأنه يكتفي بجمع البيانات من خلال تقنيات البحث الميداني ثم يقوم بمعالجتها إحصائيا قصد تحديد أوجه العلاقة بين متغيرات البحث. وعلى أية حال، فرغم مشروعية وأهمية البحوث الأمبريقية، إلا أن المغالاة في ذلك مع اتخاذ موقف سلبي من الجهد النظري والتنظيري، يجعلنا نشكل تصورات متناثرة عن أجزاء من الواقع، ولكنه يعجز عن تزويدنا بفهم شامل وتفسير متكامل عن الحياة الاجتماعية، فهذا الاتجاه كما يقول رايت ميلز مثله مثل النظرية المتضخمة يشكل هروبا من أداء المهام الرئيسيـة المطروحة أمام العلوم الاجتماعية، ومن هنا أصبحت النظرية والمنهج من خلال هذين الاتجاهين >> أداتي إعاقة علمية. ففي الأول يقوم بدور الإعاقة تشيء المفاهيم النظرية، وفي الثانية يقوم بهذا الدور الكف والقصور المنهجيين([32])<<.
وهكذا، تعتبر هذه الصور لإدراك الواقع بمثابة عراقيل إبستيمولوجية، أثّرت إلى حد ما، على تطور النظرية، وهي تقدِّم، من جهة أخرى، رسما توضيحيا عن مراحل وأشكال تطور التفكير العلمي، حيث تشير إلى تطور طرق إدراك الواقع الاجتماعي. هذا في الوقت الذي تشير فيه التجديدات المبدعة والموضوعية المختلفة، التي تقدمها التيارات النقدية والعلمية إلى ثورات على أشكال التفكير هذه.
إذا رجعنا إلى العملية التعلمية، وإذا وضعنا في الاعتبار تصارع هذه الصور المختلفة فيما بينها، فسيكون من الممكن تصور الانعكاس السلبـي الذي يحدث لدى الطلاب المبتدئين، الذين أصبحوا، كما قال "نيقولا تيماشيف" منذ مـدة: >> يواجهـون صعوبة بالغة في اكتشاف طريقهم وسط الآراء الكثير المتضاربة ([33]) <<
ومن هنا، يتطلب الأمر تقديم عون بيداغوجي يسمح للطالب بالانتباه إلى أبعاد وأصول هذه الاتجاهات النظرية، وكذا التعديلات والإضافات العديدة التي حقنت مضامينها، ويجب أن يكون في آخر الأمر صاحب المبادرة في تحقيق "انقلاب معرفي" يتمرد من خلاله عن كافة أشكال السيطرة الرمزية، ويتحرر بفضله من الحسابات الأيديولوجية، وينتهي به إلى تجاوز نزعة الإغراق في التنظير أو التجزيء.
ومـن المفيـد الاستفادة من النصائح التي يقدمها صاحب كتاب "الخيال السوسيولوجي " (L’imagination sociologique) كأداة تثوير لمواجهة التجزئة والتضخيم، وتحقيق فهم واقعي للمجتمع وذلك بعدم إغفال البعد التاريخي للظاهرة الاجتماعية، وعدم تجاهل أهمية الأفراد كفاعلين وكمواضيع للتغير وغيره، مع التسلح برؤية كلية أو كما عبر عن ذلك صاحب الخيال السوسيولوجي بقوله: >>هذا الخيال العلمي هو الذي يمكن صاحبه من فهم الإطار التاريخي الأوسع، في ضوء معانيه ودلالاته سواء بالنسبة للحياة الذاتية الشخصية أو بالنسبة للمسار الخارجي لأنماط كثيرة من الأفراد ([34])<< وهو>>الذي يمكّننا من استيعاب التاريخ وسير الحياة الذاتية، وأيضا إدراك العلاقة بينهما في سياق المجتمع([35])<<
ويقترح رايت ميلز مجموعة من الأسئلة التي تصلح كأهداف بيداغوجية لتطوير الاستعدادات العلمية، وتكوين رؤية علمية للواقع الاجتماعي، وليضعها الباحث نصب عينيه ويسترشد بها خلال تحليله للواقع ومحاولته التعامل معه ومن ضمن هذه الأسئلة: >> ما هو البناء الاجتماعي للمجتمع المحدد في كليته ؟ ما هي مكوناته الجوهرية وكيف يرتبط كل مكون منها بالآخر؟ وكيف يختلف هذا البناء الاجتماعي عن غيره من النظم الاجتماعية المتباينة ؟ وما هي دلالة وما مغزى كل ملمح نوعي بالنسبة لاستمرارية هذا البناء وتغيره؟ أين يقف هذا المجتمع من التاريخ الإنساني؟ ما هي ميكانيزمات وآليات التغيير؟ ما هو مكانته ودلالته لتطور الإنسانية ككل؟ كيف يؤثر ويتأثر كل ملمح نوعي نفحصه بالمرحلة التاريخية التي يمر بها المجتمع ؟ وما هي الملامح الجوهرية لهذه المرحلة؟ وكيف تختلف ملامحها عن ملامح المراحل الأخرى ؟ وما هي أساليبها المتميزة في صناعة التاريخ ؟ وما هي نوعيات الرجال والنساء الذين لهم السيادة في هذا المجتمع، في هذه المرحلة التاريخية ؟ وما هي النوعيات التي ستسود أو المرشحة للسيادة ؟ بأي الأساليب يتم انتقاؤهم وتشكيلهـم ؟ وتحريرهم أو إخضاعهم، وجعلهم أكثر فاعلية أو أكثر سلبية ؟ وما هي الطبيعة الإنسانية التي نلاحظها في هذا المجتمع، وفي هذه المرحلة التاريخية من خلال دراستنا للسلوك والشخصية ؟ وما هي دلالة ومغزى كل ملمح من ملامح المجتمع الذي ندرسه بالنسبة للطبيعة الإنسانية ؟ << ([36]).
هذه جملة من الأسئلة، التي بإمكانها إحداث قطيعة معرفية، تجعل الأستاذ والطالب والباحث، كما يقول رايت ميلز، ينتقل من <<منظور لآخر، من المنظور السياسي إلى المنظور السيكولوجي، من عملية بحث أسرة واحدة إلى الدراسة المقارنة بميزانيات بلدان العالم >>، و تسمح له << بالتطلع إلى معرفة المغزى الاجتماعي والتاريخي للفرد، في المجتمع، وفي المرحلة التاريخية التي تحدد وجوده وطابعه النوعي ([37]).>>
فما أحوج الباحث أو الأستاذ في علم الاجتماع إلى خيال علمي يتجاوز به القصور المنهجي والنظري، ويجعله يضع طالب العلم في الموقع الذي يسمح له بالتموضع اليقظ الذي يسمح له بحسن الاستيعاب، وحسن التبيّن، وحسن الاختيار.
ومن هنا فإن هذا اللفظ المركب يعني: >> الدراسة النقدية للعلم أو نظرية المعرفة العلمية <<، وبمعنى آخر فإن هذا الحقل المعرفي يختص بدراسة منتجات المعرفة العلمية ومبادئها وأصولها، من منظور نقدي، وهذا ما أشار إلية "لالاند" A. Lalande في معجمه الفلسفي حين عرفها بأنها: >> ذلك المبحث الذي يعالج معالجة نقدية مبادئ العلوم المختلفة وفروعها ونتائجها بهدف التوصل إلى إرساء أساسها المنطقي، كما أنه ينشد تحديد قيمة هذه العلوم ودرجة موضوعيتها ([2]).
فهي تتخذ العلم موضوعا لها، لتتناوله بالبحث والاستقصاء للوقوف على مبادئه وقضاياه النظرية الأولية وقيمه ومعاييره، وعلى مقارباته للواقع، وهي بهذا تتناول أصوله التاريخية، بتتبع مراحل وعوامل تقدمه، وتحاول الكشف عن أسباب وفترات تقهقره.
وهي تسعى ضمن هذا التناول التاريخي التتابعي Diachronique للمعرفة العلمية ([3]) لتجاوز التتبع السردي إلى الانتقال إلى الفحص النقدي الثاقب لتشكل المفاهيم المعرفة العلمية وتطور مدلولاتها وقضاياها النظرية.
وبشكل عام، يمكن القول (مع بياجيه) بأن دراسة الحياة الداخلية لأي علم تتم في مخبر الإبستيمولوجية ضمن منهج تاريخي ووفق مقاربات نقدية ([4]).
ونشير ونحن في معرض الحديث عن الابستيمولوجيا، إلى أنه من الصعب تحديد مفهوم هذه الأخيرة بدقة من دون تحديد خطوط التداخل والتباعد التي تحدّها مع بعض فروع العلم والفلسفة.
ويرجع السبب في ذلك كما يقول "روبير بلانشيه" (Robert Blanche) إلى أن:>> الحدود التي سنقيمها بينها وبين غيرها من العلوم أو المعارف الأخرى ستبقى حدودا غير ثابتة، لأن كثيرا من المشكلات الإبستيمولوجية ستطلّ في الأغلب على ميادين نكون قد استعدناها في تحديدنا لميدان الإبستيمولوجيا..<<([5]).
وبما أن استعرض هذه الخطوط فيما بين الإبستيمولوجية وغيرها المعارف الإنسانية لا يدخل في صلب هذه الورقة، فإننا سنكتفي بالإشارة إلى بعضها حسب الحاجة، في معرض الحديث عن العلاقة بين الابستيمولوجيا والتعليمية.
ثانيا- التعليمية:
تهدف الدراسات في ميدان التعليمية إلى تناول عملية اكتساب المعرفة، كما أنها تسمح بتفسير أسباب عدم النجاح في اكتساب مضمون معرفي ما، فضلا عن كونها تسعى إلى دراسة مراحل اكتساب طلاب العلم للمعلومات وطرق توظيفها في حياتهم العلمية والعملية، وأساليب تعاملهم مع المواقف أو المشكلات المختلفة التي تواجههم.
وتعتبر التعليمية حقلا بحثيا هاما، ينطوي على نمط محدد لتحليل ظواهر التعليم، أكثر من كونها علما مستقلا بذاته.
ولتوضيح كيفية الاستفادة من هذه الدراسات في مجال بحثنا، يجب التمييز بين:
-حقل (champ) الدراسة في مجال"البحث التعليمي" (La recherché didactique)
- وأداة ( Outil)الدراسة في ذات المجال.
ولتوضيح ذلك، يمكن القول، بأن البحث التعليمي قد يتخذ أي تخصص علمي (مثل علم الاجتماع علم النفس أو الرياضيات..) كحقل للدراسة، هذا في الحين الذي يستعمل فيه بقية التخصصات العلمية والمعرفية الأخرى (مثل الابستيمولوجيا و الإحصاء و علم النفس..) كأدوات للدراسة.
فعند دراسة سيكولوجية تعلم الرياضيات مثلا يصبح علم النفس أداة للبحث التعليمي، بينما تصبح الرياضيات موضوعا أو حقلا لهذا البحث..
وبالنسبة لهذه الدراسة التي نحن بصددها، فهي تتخذ الابستيمولوجيا كأداة للبحث التعليمي في حقل محدد وهو: علم الاجتماع، كنموذج للعلوم الاجتماعية.
ثالثا-التعليمية والابستيمولوجيا (نحو إطار توجيهي في ميدان علم الاجتماع):
تشكل التعليمية نقطة التقاء العديد من المعارف العلمية والفلسفية، التي تهتم بدراسة الجهد المنظم الواعي الذي يقوم به "الأستاذ" من أجل تكييف مضامين المعرفة العلمية، وفق مقتضيات ومحكّمات بيداغوجية وتربوية.
وتقترح الدراسة، على سبيل المثال لا الحصر، إمكان مساهمة الابستيمولوجيا كأداة للبحث التعليمي في مجال علم الاجتماع من خلال الجوانب الثلاث التالية:
ا- الابستيمولوجيا وتطور دلالات المفاهيم:
يحدث ضمن هذا الجانب من الاستقصاء الخاص بمساهمة المقاربة الإبستيمولوجية في العملية التعليمية، (أي في تبليغ المحتوى المعرفي) تقاطع كبير بين الابستيمولوجيا وتاريخ العلوم ( Histoire des sciences).
وفي هذا الصدد، يمكن للمقاربة التاريخية أن تقدم عونا بالغ الأهمية، بفضل إعطائها للمتلقي (أو المتعلم) (L’apprenant) خلفية واسعة حول صيرورة تشكل وتطور دلالات المفاهيم؛ وعن أبعاد تبلور مختلف مضامين المعرفة العلمية، وعلاوة على ذلك، فهي تلقي الضوء على السياق العام لمختلف الإضافات العلمية، وكذا الظروف التي رصدت فيها هذه الإضافات؛ وقُيِّدت في سجل العلوم.
ويجدر بنا أن نذكر بأن التقاطع الحاصل بين مؤرخ العلوم والباحث في المجال الابستيمولوجي لا يعني بأيِّ حال من الأحوال حصول تداخل كلي بينهما، فالباحث في الابستيمولوجيا ينطلق من تصور خاص لمسيرة المعرفة العلمية ([6]) فهـو يطرح القضيـة من منطلـق " العقبـات الإبستيمولوجيـة" (Les obstacles épistémologique) .
فكما يقول غاستـون باشلار (Gaston Bachelard) << فإننا عندما نبحث عن الشروط النفسانية لتقدم العلوم، سرعان ما نتوصل إلى هذا الاقتناع، بأنه ينبغي طرح مسألة المعرفة العلمية بعبارات العقبات ([7])<<. ويكْمن الفرق بين تاريخ العلم والابستيمولوجيا حسب باشلار في أن: >> مؤرخ العلوم مُطالب بدراسة الأفكار بوصفها "وقائع" ( Des faits) ، أما الابستيمولوجيا فهي ملزمة بدراسة الوقائع بوصفها أفكارا ( Des idées)، ثم تدمجها في نظام تفكير معين. فالواقعة المفسرة خطأ في أي عصر تبقى مجرد واقعة بالنسبة للمؤرخ. هذا في حين تُمسي في عـين الابستيمولوجيا عبارة عن عقبات، أي أنها تشكل فكـرا مضادا (Une contre-pensée) ([8])>>.
وعند استعراض قضايا ومضامين علم الاجتماع، يتضح بأنه ليس فقط أبواب ومسائل هذا العلم قد كانت موضوعا للتدافع بين التفكير العلمي وبين التفكير ما قبل العلمي، بل أن موضوع هذا العلم ذاته قد كان عرضة لتنقيحات مستمرة، عبرت بوضوح عن حجم الإشكال المعرفي الذي يكتنف علم دراسة المجتمع، كما كشف في كثير من الحيان عن أزمة مشروعية قيام هذا العلم ذاته([9]).
ولعل ذلك ما يفسر لماذا تعتبر المشروعيــة ( Légitimité ) هي أول إشكال يعترض أستاذ علم الاجتماع، عند شروعـه في التواصـل مع المتعلميـن (Les apprenants) ، بل يلاحظ أن هذا الأمر، غالبا ما يستمر مع أساتذة التخصص طيلة مسيرة تدريس هذا العلم، حيث نجدهم، يبدؤون من النقطة ذاتها التي شهدت انطلاق مسيرة تأسيس مشروعية هذا العلم، أي من اللحظة التي بدأ فيها يحاول شق طريقه الخاص بين دروب الفلسفة والتاريخ وعلم النفس، وطفق فيها في حل مشاكله " الحدودية " مع الفروع العلمية والمعرفية الأخرى، والتدليل على استقلالية "الواقعة الاجتماعية".
ويستمر الأمر عبر تخصصات علم الاجتماع المختلفة، ففي علم الاجتماع الحضري، على سبيل المثال، تعتبر قضية بناء النظرية من أهم معضلات هذا الأخير، الذي بحكم دراسته لمجتمع المدينة، يجد نفسه في حلبة التدافع الإبستيمولوجي على الحدود، جنبا إلى جنب مع الجغرافية والعمارة والأنثروبولوجية وعلم الديموغرفيا..
ومن الناحية العملية، يمكن الاستشهاد بالجهود التي قام بها دوركايم في " قواعد المنهج في علم الاجتماع" من أجل تخليص أرضية هذا العلم من كل أشكال التداخل مع مواضيع العلوم الأخرى، وتحديد "خصائص الواقعة الاجتماعية" باعتبارها نتاج الحياة الاجتماعية وبوصفها مستقلة عن ذوات الأفراد، وبوصفها << تنحصر في ضروب السلوك والتفكير التي يمكن تمييزها عن غيرها بالعلامة الخاصة الآتية، وهي أنها تستطيع التأثير في شعور الأفراد تأثيرا قهريا([10])>>
ويقول في موضع آخر: >>إن الظاهـرة الاجتماعيـة هي: كل ضرب من السلوك. ثابتا كان أم غير ثابت، يمكن أن يباشر نوعا من القهر الخارجي على الأفراد، أو هي كل سلوك يعم في المجتمع بأسره، وكان ذا وجود خاص مستقل عن الصور التي يتشكل بها في الحالات الفردية ([11])<<.
يلاحظ من خلال هذه النصوص التأسيسية لعلم الاجتماع المعاصر أن التفسير السيكولوجي كان أشد عقبة إبستيمولوجية اعترضت استقلالية هذا العلم، وهي تعتبر في أي وقت أهم العقبات التي تثير الالتباس في أذهان طلاب العلم، ولذلك فمن المفيد الاستفادة من التجربة الدوركايمية التي استطاعت التمييز بين الظاهرة الاجتماعية والظاهرة النفسية، بين الوعي كحقيقة نفسية، وبين الوعي الجمعي كحقيقة اجتماعية.
وكما يقول أحد المنشغلين بعلم الاجتماع في الجزائر، مبينا إسهام دوركايم في تأسيس علم الاجتماع :>> إن رسالة عالم الاجتماع هي تفسير كيف أن "البنيات الاجتماعية" (Structures Sociales) توجه سلوكات الأفراد. لماذا معدلات الانتحار، المركبة من أفعال فردية، هي متباينة في المجتمعات التقليدية والمجتمعات الحديثة؟ لماذا تتزايد مع التصنيع؟ لماذا بعض المؤسسات تثير الاحترام أو الرهبة؟ لماذا بعض التصرفات تستوحي التقدير وبعضها الآخر يثير الاستهجان؟ ولماذا، بصورة عامة، المشاعر الأخلاقية التي تثيرها أصناف من السلوكات تختلف حسب المجتمعات؟<< ([12]).
ومن النصائح البالغة الأهمية لدوركايم في هذا الصدد قوله: << لا يجوز لعالم الاجتماع، وبحال ما، أن يستعير من علم النفس بعض قضاياه لكي يطبقها دون تحوير، على الظواهر الاجتماعية، بل لابد له من دراسة التفكير الاجتماعي برمته، أي شكلا وموضوعا، في ذاته و لذاته ولابد عليه أن يشعر خلال ذلك بما ينطوي عليه هذا التفكير من صفات خاصة به.([13])>>
غير أن الاستفادة من هذه النصائح لا يجب أن تجرنا إلى المبالغة في ذلك، لأن التمييز الذي قدمه دوركايم قد أدى- كما يقول غي روشي Guy Rocher- إلى ظهور مسافة أكبر مما نقبلها اليوم بين النفسي والاجتماعي([14]).
أما فيما يخص، الإشكال الناجم عن تحديد نطاق العلم والبحث السوسيولوجي لشتى تخصصاته، فيفضل تتبع تطور دلالات مفاهيمها وتبلور المدراس المختلفة، بقصد استخلاص الطرق الناجعة لتفهيم المتلقين أسباب وأبعاد هذا الإشكال معرفيا ونظريا ومنهجيا، وكذا التحذير العملي من الانزلاقات المعرفية، زيادة على إشراك المتلقي في الجهد الرامي لتأسيس بناء نظري متكامل فيها.
2- الإبستيمولوجيا والنقل التعليمي:
إذا كانت الابستيمولوجيا تساهم في التمييز بين الإنتاج العلمي والإنتاج الأيديولوجي([15])، وتكشف >> ضمن أية شروط تصبح المعرفة العلمية مُمْكنة؛ في ميدان الحياة الاجتماعية؟ وما هي القواعد التي تعنى بإنشاء المعطيات، والتي ترتبط بالموضوعية وبالمسافة بين المعاين والمعايِن L’observé، والتي تتعلق بنقد المخارج والأيديولوجيات؟ وما هي مقاييس البراهين([16])<< فإنها بالمقابل، وفي حقل التعليم، تمنح القائم بالتعليم يقظة تسمح له باستعراض المسافة التي تفصل المعرفة العالمة(Savoir- savant) عن المعرفة الجاري تعليمها(Savoir- Enseigné).
فكشف النقاب عن مختلف المحدّدات والمُحكِّمات البنائية والفكرية التي أثرت على تطور المعرفة العلمية، قد يساعدنا عند تحويل المعرفة، وإدخالها في دائرة التعليم، على الأخذ بعين الاعتبار المسافة التي تفصل نظام التعليم ونظام تطور المعرفة.
فالأمر هنا، يتعلق بالأخذ بعين الاعتبار تأثير مختلف "الشركاء الصامتين" في العملية التعليمية، الذين واجههم مبدع المعرفة، ويواجههم ناقلها ومبلِّغها طوال مراحل قيامه بالتعليم.
فصناع القرار التعليمي يشكلون جزءا أساسيا في النظام التعليمي، فكما يقول " بيير بورديو" (Pierre Bourdieu): >>إن أي نشاط تربوي هو موضوعا من العنف الرمزي، وذلك بوصفه فرضا من قبل جهة متعسفة لتعسف ثقافي معين([17])<< هذا بالإضافة إلى الشركاء الذين يستقدمهم الطالب من بيئته الفيزيقية والرمزية، والذين يشكلون عائقا قد لا يسمح بتحقيق بعض الأهداف البيداغوجية، خاصة ما يتعلق منها بتطوير اتجاهات التعلم لديه، أو تحريره من كل ما من شأنـه أن يحد من بلورة تصور علمي لديه متحررا من الرواسب المعرفية ما قبل علمية.
ولحل هذا الإشكال بذلت جهود معتبرة على صعيد تأسيس المعرفة العلمية، كما بذلت جهود أخرى – ولازالت على الصعيد البيداغوجي- فمن الناحية الأولى يمكن التذكير بالمجهود الذي قام به دوركايم، من أجل تحديد الطريقة الناجعة عند دراسة الظواهر الاجتماعية، قصد تأسيس العلم السوسيولوجي، حيث وفّر شرطين ضروريين، أصبح إسهامه يُختصر فيهما، بوصفهما صيغتين بارزتين كما يوضح "ريمون آرون" ( Raymond Aron) وهما : >> ضرورة اعتبار الوقائع الاجتماعية كأشياء Comme des choses، وأن من خصائص الظاهرة الاجتماعية أنها تمارس قهرا على الأفراد.([18])<<
فحسب هذه الإشارة فقد أكد دوركايم على شيئية الواقعة الاجتماعية لحل مشكلة التداخل بين الذات العارفة وموضوع المعرفة، وكان الهدف من ذلك إحداث ثورة في مجال إدراك الظاهرة الاجتماعية. وبرأينا، يجب إحداث ثورة مماثلة في مجال التعليم لدى الطالب، حتى يتسنى إحداث قطيعة مع وهم الانطباعات الأولية، وإيحاءات الخلفيات الأيديولوجية، وكل ما من شأنه أن يحجب التشخيص الموضوعي السليم للواقعة الاجتماعية.
3- العوائق الإبستيمولوجية والعوائق التعليمية :
يمكن أن تقدم الابستيمولوجيا دعما كبيرا عند محاولة تجاوز بعض العقبات التي تحول دون تحقيق بعض الأهداف البيداغوجية. فمن خلال تتبع تطور المعرفة العلمية، يمكن أن نعقد مقارنة بين المراحل السابقة على المعرفة العلمية (رصد مختلف العوائق الإبستيمولوجية) التي شكلت عائقا أمام تطور المعرفة، وبين المراحل السابقة على التعلم لدى الطالب والتي تحدّ من فاعلية تعلمه، وهنا يمكن أن تدعم البحوث الميدانية هذا المسعى.
على أية حال، استطاع باشلار من خلال مفهوم العقبة الإبستيمولوجية أن يطرح أسلوبا جديدا لدراسة تطور العلوم، كشف من خلاله عن مختلف الأسباب التي تعيق تطور المعرفة العلمية، وهو لا يقصد بالعقبة، العقبات الخارجية مثل تركيب الظواهر وزوالها، أو ضعف الحواس والعقل البشري، فهو يعني بها العقبات التي ترتبط بعملية الحصول على المعرفة أو حسب تعبيره التي تكمن في << صميم فعل المعرفة بالذات ([19])>> ويسرد باشلار جملة من العقبات التي أدت إلى ركود المعرفة العلمية منها:
1) الملاحظات الأولى، التي لا تقدم صورة صحيحة للظواهر، ولا حتى الظواهر المنتظرة بدقة، فقد يحل الإعجاب محل المعرفة، وتوضع الصور موضِع الأفكار، أي تتدخل رغباتنا اللاشعورية وأهواؤنا الصماء ([20]).
2) المعرفة العامة بوصفها عقبة أمام المعرفة العلمية، وفي هذا يقول باشلار:>>لم يوقف شيء عجلات تقدم المعرفة العلمية سوى عقيدة العام الباطلة التي سادت منذ أرسطو حتى باكون([21])<< فالتعميمات البسيطة ذات أثر خطير يتمثل قي استمرار وقف الاختبار، وعدم الاهتمام بالتجربة.
3) العقبة اللفظية: ويعطي باشلار مثالا بلفظة الاسفنجة، التي استخدمت كأداة تفسيرية لكثير من الظواهر، حيث فسّر بها الهواء عند إنضغاطه الشديد بفعل الأثقال باعتباره إسفنجيا، وفسر أحدهم الثلج باعتباره إسفنجة ماء مكثف ومجلد في غياب النار([22])، حتى أن ديكارت على رجاحة عقله اعتبر >>أن التشكيك بوضوح وتمايز الصورة التي تقدمها لنا الاسفنجة يعني التدقيق في التفسيرات دون وجه حق ([23])<< وهكذا استعملت الاسفنجة بوصفها مقولة تفسيرية كافية في حد ذاتها، وبإمكانها أن تخفف من مشقة البحث والتجريب....( الخ من العقبات..)
هذا وقد أطلق غاستون باشلار على حقبة الاكتشافات العلمية التي حدثت في مجرى تاريخ العلوم، والتي كانت تعبيرا عن انتصارات المعرفة العلمية على المعارف السابقة على العلم، وعلى كافة العراقيل التي تحجز تطور العلم، والتي كانت، أيضا، تعبيرا عن سلسلة الانتصارات التي حققها العقل البشري أمام الأخطاء والجهل والحواجز، قلت أطلق باشلار على المرحلة التي ينتصر فيها العلم والعقل، ويحدث فيها تجاوز المرحلة السابقة للعلمية، مفهوم "القطيعة الإبستيمولوجية"(Obstacle épistémologique)، وهو المفهوم الذي يشير إلى >>اللحظة النظرية التي تنفصل فيها المعرفة العلمية عن ماضيها الأيديولوجي([24])<<
ويلاحظ عند استعراض تاريخ العلوم الاجتماعية، أن هذه الأخيرة شهدت عددا معتبرا من العوائق منها: تأثير النزعة الإصلاحية، وتغليب الذاتية على الموضوعية، والركون إلى التفسيرات الأيديولوجية المحضة، لدرجة تصبح معها الأيديولوجية وسيطا معرفيا بين الذات العارفة وموضوع المعرفة.
إضافة إلى الالتباس بين مختلف التخصصات الاجتماعية، لكون الواقعة الاجتماعية، في حقيقة الأمر، مُحصلة للحياة الاجتماعية، بكل أبعادها السياسية والاقتصادية والدينية والأخلاقية.
ولعل أخطر العوائق التي شهدها هذا العلم، وقوع العالم السوسيولوجي ضحية -ما أطلق عليه بيير بورديو- "علم الاجتماع العفوي" (Sociologie Spontanée) الذي يقنع بالتعليل العفوي، الذي يستطيع كل فرد منا أن يعطيه لممارسته ولتلك التي يلاحظها لدى الآخرين([25]). ومن هنا يتحتم على الباحث والأستاذ إحداث قطيعة مع علم الاجتماع العفوي، بحيث يتجاوز "الإدراك العام" للواقع (Perception commune) أو الفهم التلقائي حسب تعبير ريمون آرون ([26]). وهو الإدراك أو الفهم الذي يحد من علمية تشخيص الظاهرة الاجتماعية وتفسيرها.
وإجمالا، يمكن اختزال هذا التأرجح بين الصور غير دقيقة المتعددة لإدراك الواقع الاجتماعي ومن ثم تفسيره فـي ثلاث نماذج وهي:
أولا – الإدراك المبسط للواقع:
يعتبر الاتجاه المبسط الشكل التاريخي الأول لإدراك المجتمع، ويمكن الإشارة إلى نوعين من أنواع الإدراك ضمن هذا الاتجاه:
1-النوع الأول: ويتمثل في النموذج العضوي وهو يتناول المجتمعات أو الكليات الاجتماعية على اعتبار أنها تتوفر على سمات مشابهة للوقائع العضوية أو الكائنات الحية) [27](. فهذا التصور يقوم على أساس " المماثلة العضوية " والتي هي نوع من المقابلة بين المجتمع والكائن الحي. حتى أن بعض أتباع سبنسر Spencer كما يقول المرحوم العلامة عاطف غيث:>> ذهبوا إلى حد البحث عن مكان القلب والعقل والدورة الدموية في الكائن الاجتماعي )[28] << (.
2- أما النوع الثاني، فيتمثل في " النموذج الميكانيكي" وهو النموذج الذي يستخدم المقابلة بين المجتمع والآلة. وقد ازدهر هذا النوع الأخير من إدراك الواقع بتأثير من العلوم الطبيعية والميكانيكا والرياضيات. فالمجتمع من وجهة النظر ميكانيكية عبارة عن نسق فلكي Système Astronomique تتكون عناصره من أفراد تربطهم ببعضهم علاقات تجاذب أو تنافر، وهذه العلاقات قابلة للقياس، وهي محصلة طبيعية لتفاعل ذي خصائص طبيعية ويمكن التعبير عنه بواسطة أسلوب الميكانيكا الاجتماعية )[29](.
ثانيا: الإدراك المعقّد للواقع الاجتماعي:
وهو الإدراك المُغرق في التجريد والابتعاد عن الواقع. ويمكن أن نستدل عليه من خلال الاتجاه الصوري الذي ساد في علم الاجتماع الألماني ( زيمل G. Simmel،فون فيزي Von Weise) والذين يتناولون الحياة الاجتماعية من خلال تناول الصور أو الأشكال Formes التي تتبدى فيها العلاقات الاجتماعية، فهم مثلا لا يدرسون التنافس من حيث مضمونه الاقتصادي أو السياسي، بل من حيث كونه صورة مجردة تعبر عن شكل معين من أشكال العلاقات الاجتماعية([30]).
ويمكن إدراج أعمال عالم الاجتماع الأمريكي "تالكوت بارسونز"Talcot Parsons ضمن هذا الاتجاه ، وقد صنفت نظرياته ضمـن "النظريات المتضخمة" ، حيث اتسمت نظريته عن " النسق الاجتماعي " بكونها كما يقول رايت ميلز Wright Mills: >> قابلة لأن تكون نظرية شكلية وجدباء يصبح فيها تفتيت المفاهيم، ثم إعادة ترتيبها اللانهائي هو الهدف المركزي.. ([31])<< .
ثالثا: الإدراك المجزأ للواقع:
وهو الإدراك المجزأ Atomisée للواقع، والذي قد يطلق عليه "الأمبريقية المغالية المجتزأة" Empirism Abstracted وهو الاتجاه، الذي لا يقدم صورة متكاملة عن الحياة الاجتماعية، لأنه يكتفي بجمع البيانات من خلال تقنيات البحث الميداني ثم يقوم بمعالجتها إحصائيا قصد تحديد أوجه العلاقة بين متغيرات البحث. وعلى أية حال، فرغم مشروعية وأهمية البحوث الأمبريقية، إلا أن المغالاة في ذلك مع اتخاذ موقف سلبي من الجهد النظري والتنظيري، يجعلنا نشكل تصورات متناثرة عن أجزاء من الواقع، ولكنه يعجز عن تزويدنا بفهم شامل وتفسير متكامل عن الحياة الاجتماعية، فهذا الاتجاه كما يقول رايت ميلز مثله مثل النظرية المتضخمة يشكل هروبا من أداء المهام الرئيسيـة المطروحة أمام العلوم الاجتماعية، ومن هنا أصبحت النظرية والمنهج من خلال هذين الاتجاهين >> أداتي إعاقة علمية. ففي الأول يقوم بدور الإعاقة تشيء المفاهيم النظرية، وفي الثانية يقوم بهذا الدور الكف والقصور المنهجيين([32])<<.
وهكذا، تعتبر هذه الصور لإدراك الواقع بمثابة عراقيل إبستيمولوجية، أثّرت إلى حد ما، على تطور النظرية، وهي تقدِّم، من جهة أخرى، رسما توضيحيا عن مراحل وأشكال تطور التفكير العلمي، حيث تشير إلى تطور طرق إدراك الواقع الاجتماعي. هذا في الوقت الذي تشير فيه التجديدات المبدعة والموضوعية المختلفة، التي تقدمها التيارات النقدية والعلمية إلى ثورات على أشكال التفكير هذه.
إذا رجعنا إلى العملية التعلمية، وإذا وضعنا في الاعتبار تصارع هذه الصور المختلفة فيما بينها، فسيكون من الممكن تصور الانعكاس السلبـي الذي يحدث لدى الطلاب المبتدئين، الذين أصبحوا، كما قال "نيقولا تيماشيف" منذ مـدة: >> يواجهـون صعوبة بالغة في اكتشاف طريقهم وسط الآراء الكثير المتضاربة ([33]) <<
ومن هنا، يتطلب الأمر تقديم عون بيداغوجي يسمح للطالب بالانتباه إلى أبعاد وأصول هذه الاتجاهات النظرية، وكذا التعديلات والإضافات العديدة التي حقنت مضامينها، ويجب أن يكون في آخر الأمر صاحب المبادرة في تحقيق "انقلاب معرفي" يتمرد من خلاله عن كافة أشكال السيطرة الرمزية، ويتحرر بفضله من الحسابات الأيديولوجية، وينتهي به إلى تجاوز نزعة الإغراق في التنظير أو التجزيء.
ومـن المفيـد الاستفادة من النصائح التي يقدمها صاحب كتاب "الخيال السوسيولوجي " (L’imagination sociologique) كأداة تثوير لمواجهة التجزئة والتضخيم، وتحقيق فهم واقعي للمجتمع وذلك بعدم إغفال البعد التاريخي للظاهرة الاجتماعية، وعدم تجاهل أهمية الأفراد كفاعلين وكمواضيع للتغير وغيره، مع التسلح برؤية كلية أو كما عبر عن ذلك صاحب الخيال السوسيولوجي بقوله: >>هذا الخيال العلمي هو الذي يمكن صاحبه من فهم الإطار التاريخي الأوسع، في ضوء معانيه ودلالاته سواء بالنسبة للحياة الذاتية الشخصية أو بالنسبة للمسار الخارجي لأنماط كثيرة من الأفراد ([34])<< وهو>>الذي يمكّننا من استيعاب التاريخ وسير الحياة الذاتية، وأيضا إدراك العلاقة بينهما في سياق المجتمع([35])<<
ويقترح رايت ميلز مجموعة من الأسئلة التي تصلح كأهداف بيداغوجية لتطوير الاستعدادات العلمية، وتكوين رؤية علمية للواقع الاجتماعي، وليضعها الباحث نصب عينيه ويسترشد بها خلال تحليله للواقع ومحاولته التعامل معه ومن ضمن هذه الأسئلة: >> ما هو البناء الاجتماعي للمجتمع المحدد في كليته ؟ ما هي مكوناته الجوهرية وكيف يرتبط كل مكون منها بالآخر؟ وكيف يختلف هذا البناء الاجتماعي عن غيره من النظم الاجتماعية المتباينة ؟ وما هي دلالة وما مغزى كل ملمح نوعي بالنسبة لاستمرارية هذا البناء وتغيره؟ أين يقف هذا المجتمع من التاريخ الإنساني؟ ما هي ميكانيزمات وآليات التغيير؟ ما هو مكانته ودلالته لتطور الإنسانية ككل؟ كيف يؤثر ويتأثر كل ملمح نوعي نفحصه بالمرحلة التاريخية التي يمر بها المجتمع ؟ وما هي الملامح الجوهرية لهذه المرحلة؟ وكيف تختلف ملامحها عن ملامح المراحل الأخرى ؟ وما هي أساليبها المتميزة في صناعة التاريخ ؟ وما هي نوعيات الرجال والنساء الذين لهم السيادة في هذا المجتمع، في هذه المرحلة التاريخية ؟ وما هي النوعيات التي ستسود أو المرشحة للسيادة ؟ بأي الأساليب يتم انتقاؤهم وتشكيلهـم ؟ وتحريرهم أو إخضاعهم، وجعلهم أكثر فاعلية أو أكثر سلبية ؟ وما هي الطبيعة الإنسانية التي نلاحظها في هذا المجتمع، وفي هذه المرحلة التاريخية من خلال دراستنا للسلوك والشخصية ؟ وما هي دلالة ومغزى كل ملمح من ملامح المجتمع الذي ندرسه بالنسبة للطبيعة الإنسانية ؟ << ([36]).
هذه جملة من الأسئلة، التي بإمكانها إحداث قطيعة معرفية، تجعل الأستاذ والطالب والباحث، كما يقول رايت ميلز، ينتقل من <<منظور لآخر، من المنظور السياسي إلى المنظور السيكولوجي، من عملية بحث أسرة واحدة إلى الدراسة المقارنة بميزانيات بلدان العالم >>، و تسمح له << بالتطلع إلى معرفة المغزى الاجتماعي والتاريخي للفرد، في المجتمع، وفي المرحلة التاريخية التي تحدد وجوده وطابعه النوعي ([37]).>>
فما أحوج الباحث أو الأستاذ في علم الاجتماع إلى خيال علمي يتجاوز به القصور المنهجي والنظري، ويجعله يضع طالب العلم في الموقع الذي يسمح له بالتموضع اليقظ الذي يسمح له بحسن الاستيعاب، وحسن التبيّن، وحسن الاختيار.
مواضيع مماثلة
» ملخص لكتاب علم الاجتماع تأليف عالم الاجتماع أنتوني غيدينز
» ما هو علم الاجتماع
» علم الاجتماع
» كتب متنوعة في علم الاجتماع
» كتب علم الاجتماع بالعربية
» ما هو علم الاجتماع
» علم الاجتماع
» كتب متنوعة في علم الاجتماع
» كتب علم الاجتماع بالعربية
صفحة 1 من اصل 1
صلاحيات هذا المنتدى:
لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى
الإثنين أغسطس 28, 2023 5:54 am من طرف sghiri
» نظرية النافذة المكسورة
الإثنين أغسطس 28, 2023 5:52 am من طرف sghiri
» تقرير عن ندوة المثقف و المجتمع بمكناس
الأربعاء نوفمبر 12, 2014 2:25 pm من طرف sumaya bakria
» الحكامة الأمنية
الثلاثاء أغسطس 12, 2014 5:02 pm من طرف sghiri
» ما السوسيولوجيا القروية؟
الإثنين فبراير 10, 2014 6:52 pm من طرف زائر
» أسئلة اختبارات علم الإجتماع .... من الفصل الأول إلى الرابع
الإثنين يناير 13, 2014 12:46 pm من طرف sghiri
» عرض في مادة انتروبولوجيا العالم الاسلامي 2009
الأربعاء ديسمبر 04, 2013 12:28 pm من طرف rachidov20
» موقع لتحميل الكتب في مجالات مختلفة
الثلاثاء ديسمبر 03, 2013 6:35 pm من طرف sghiri
» تحميل كتاب المراقبة والمعاقبة ميشيل فوكو
الجمعة نوفمبر 29, 2013 5:26 pm من طرف sghiri